خطاب الملك وقوى وآليات التخطيط والتنفيذ
شكّل خطاب العرش الذي افتتح فيه الملك الدورة غير العادية لمجلس الامة السابع عشر محاور اساسية لإطلاق ثورة بيضاء، في ظروف عنوانها الايجابي والمنطقي ما يمكن أن يوضع تحت عنوان حقيقي هو (نداء المسؤولية التاريخية) لمؤسسات الدولة ابتداء من الحكومات ومجلس النواب والاعيان مرورا بالكتل النيابية والاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. وأعتقد أن في هذا الخطاب نهجا وميزات في المحاور التي تضمنها وفي الشكل، فالخطاب في نهجه ولغته هو خارطة طريق جادة على الجميع التقاط مراميها وقواعد أسسها وفي شكله اختلاف واضح عما عرفناه من خطابات العرش السابقة التي كانت عبارة عن "لقد حققت حكومتي مثلا، أو ستعمل الحكومة في مجال كذا ومجال كذا على كذا وكذا"، فالخطاب الحالي خلا من هذه الشكلية ليقول من بين السطور إن كرة الإصلاح والتخطيط والتنفيذ هي الان بين ايدي السلطات الثلاث للعمل الجاد فعلا على طريق التحول الديمقراطي والإصلاح الشامل، وهذه مسؤولية مباشرة تاريخية يجب أن تتحملها الحكومة ومجلس الامة والنخب الحقيقية في نهجها المؤيد ونهجها المعارض عبر خطط واضحة وشفافة وآليات وأدوات مناسبة صادقة مؤمنة بالعمل الصحيح خدمة للصالح العام نابذةً الواسطة والمحسوبية وكل إجراء هدفه الواضح والضمني المكاسب الشخصية.
وما دام جلالة الملك يقول في خطاب تاريخي وأمام الاردنيين واهل المنطقة والعالم كل ذلك فإنه في الوقت نفسه قد امر الحكومة بإطلاق ثورة بيضاء للنهوض بالاداء ضمن خطة معلنة واهداف محددة وحين يقول ذلك وغير الكثير المختلف عما عرفناه من نهج الحكومات في السابق حين يطلب جلالته "نهج عمل حكومي جديد يقوم على بناء الاستراتيجيات والخطط التنفيذية بالتشاور مع القواعد صعودا الى الاعلى وعلى الحكومة أن تتوخى الشفافية والانفتاح، وتوفير المعلومة في عرض موازناتها ومشاريعها ومراحل التنفيذ والإنجاز على المواطنين وممثليهم ويتم الحكم على اداء الحكومة ومساءلتها على اساسها" انتهى الاقتباس.
إن القراءة الواعية للخطاب وعلى اسس موضوعية علمية تخصصية ومن خلال التجارب والمسيرة السابقة يتطلب بتقديري جملة آراء وملاحظات، ذلك أن انحدارا سلبيا في نهج وأداء المرحلة السابقة قد تواصل منذ عقود وخصوصا في المرحلة التي كان من المفترض أن تمثل ارضية صالحة للتحول الديمقراطي والإصلاح الشامل ابتداء على الاقل منذ عودة الحياة الانتخابية لمجالس النواب بعد عام 1989 حتى مجلس النواب السابع عشر. فالالتزام بمؤسسة العمل وبناء الاستراتيجيات والخطط والتنافس وحالة الاحزاب والسلوك الشخصي للحكومات واعضاء مجالس النواب وكثير من المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية قد تناقض مع الإصلاح الشامل وكانت تطبيقات الخصخصة وحالة المؤسسات المستقلة والاساليب الانتخابية والطرق التي اتبعها كثير من مؤسسي الاحزاب وغير ذلك الكثير مما جعل الارضية للتحول الديمقراطي والإصلاح الشامل اليوم في حالة من الضعف والتشوه حتى بلغت المديونية في نهاية العام الماضي اكثر من 25 مليار دولار تشكل عمليا أكثر من ثلاثة ارباع الناتج المحلي الاجمالي. وفي حالة اقتراض نحو 5444 مليون دينار كما تم الاعلان عن ذلك لسداد الاقساط والفوائد المستحقة هذا العام ومواجهة العجز باقتراض داخلي وباقتراض خارجي ومنه التوجه الحكومي لطرح سندات "اليورو بوند" على مرحلة أو مرحلتين ناهيك عن سوء توزيع الدخل الذي رافق منهج ضرب العدالة فإن كل ذلك يؤشر على أن متطلبات الثورة البيضاء للاصلاح الشامل والتحول الديمقراطي الحقيقي تتطلب الانفتاح على قوى جديدة في المجتمع الاردني لا تتصف بمواصفات القوى السابقة الحكومية وغير الحكومية التي أوصلت البلاد الى الحالة الراهنة وخصوصا أن نهج الحكومات السابقة قد حاول متعمدا التغطية على سلبياته بالاستعانة بأفراد يساريين وقوميين واسلاميين تم استقطابهم على درجات وفترات ومراحل ليصبحوا مساندين لقوى الشد العكسي وهم يتزينون بملامح تجميلية وتحت اغراءات المكاسب الشخصية التي دعا جلالة الملك الى نبذها كما هو الحال باستمرار الذي اتصف بخطاب جلالته بنبذ الواسطة والمحسوبية.
إن استيعاب مضامين خطاب الملك يتطلب للتنفيذ السليم والصحيح الاعتماد على مدونة سلوك صحيحة وشفافة تجعل سيرة كل مسؤول ومؤهلاته وخبراته الاكاديمية والعملية أمام التقييم الموضوعي والعملي، ذلك أن الافراد القائمين على قيادة المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية هم جزء لا يتجزأ من قوى وآليات التخطيط والتنفيذ السليم.
وحين وضع جلالة الملك الكرة في مجلس النواب السابع عشر فإن الامور قد اصبحت أمام الاعداد الجاد "لمرحلة انتقالية حاسمة" كما وصفها الخطاب، فهل يلتقظ الجميع هذه الفرصة التاريخية بمنطق علمي جدلي تاريخي لاصلاح الارضية ووضع قواعد مؤهلة للتخطيط والتنفيذ والقدرة المتواصلة على المتابعة لإصلاح كل خلل تواجهه خارطة الطريق قبل أن يستفحل الخلل كما استفحل في المرحلة الماضية وحتى الان.. وأخطر ما في الامر استمرار منهج الاستزلام والشلليات لاهداف شخصية محدودة مع ما يرافقه من إقصاء وتهميش للنخب التي تستحق أن يُسمع رأيها في ظروف صحية لخدمة ما ندعوه الصالح العام اي مصلحة الوطن والعباد. فمن غير المنطقي أن تنفذ هكذا خارطة طريق قوى وآليات تمت تجربتها وظهرت حقائق سلوكها ماضيا وحاضرا واعطيت ما لا تستحق من الالقاب والمكاسب الشخصية.. والناس تراها بعين الوطن لا بعين الحكومات التي عرفناها.