مجرمون في عيون الشعب.. أبرياء في عيون القضاء!

 

 
أليست مهزلة، لا تَعْدلها مهزلة، أنْ يجتهد القضاء المصري في إثبات "نزاهته"، و"موضوعيته"، و"مهنيته"، من طريق الإفراج عن زكريا عزمي، رئيس ديوان مبارك المخلوع، وفتحي السرور، رئيس مجلس الشعب، وصفوت الشريف، رئيس مجلس الشورى، بدعوى أنْ لا أدلة كافية لإدانة هؤلاء (وغيرهم من كبار قادة ومسؤولي نظام حكم مبارك الدكتاتوري الفاسد)؟!
لقد تأكَّد وثَبُت، إلاَّ لِمَن يَطْلُب دليلاً على وجود النهار، تورُّط النائب العام السابق (وآخرين) في إخفاء وإتلاف الأدلة الكافية لإدانتهم حتى يفلتوا من العقاب على ما ارتكبوه من جرائم في حقِّ الشعب المصري؛ ثمَّ تجرَّأ القضاء على تبرئة ساحتهم ل "عدم كفاية الأدلة"؛ وأحسب أنَّ الحجة نفسها (عدم كفاية الأدلة) سيُشْهرونها في وجهك كالسيف إذا ما اتَّهَمْتَ النائب العام السابق (وغيره) بإخفاء وإتلاف الأدلة؛ لكن، يكفي أنْ يتجرَّأ القضاء المصري على تبرئة هؤلاء، والإفراج عنهم، حتى يدين نفسه بنفسه، ويقيم الدليل للقاصي والداني على أنَّه جزء لا يتجزَّأ من قوى الثورة المضادة في مصر الآن؛ وهل له أنْ يكون غير ذلك وهو الذي كان جزءاً لا يتجزَّأ من نظام حكم مبارك، وكان ينبغي له، من ثمَّ، أنْ يسقط بسقوطه؟!
النائب العام السابق (مع غيره) إنَّما كان بريء في أمْر واحد فحسب؛ لأنَّه لم يكن قادراً على أنْ يكون مُذْنِباً فيه؛ فهو، والحقُّ يُقال، لم يُخْفِ، ولم يُتْلِف، "الأدلة الخطيرة"، أيْ الأدلة التي تُثْبِت على المُفْرَج عنهم جرائم أعظم وأخطر؛ أمَّا السبب فيكمن في كون تلك الأدلة قد أُخْفِيَت وأُتْلِفت من قَبْل، أي في عهد مبارك؛ فالمجرم، في عهده؛ وقد كان هو كبير المجرمين، كان يَرْتَكِب جريمتين في آن، ثانيتهما هي إخفاء وإتلاف أدلة إدانته فوراً.
أقول هذا، وأقول به، من غير أنْ أضرب صفحاً عن أنَّ بعض الجرائم المُرْتَكَبَة كانت "شرعية قانونية"، أيْ يسمح بها، ويجيزها، "القانون"؛ فالقانون في عهد مبارك، والذي ما زال القضاء المصري يعمل به حتى الآن، لا يُعرِّف تلك الجرائم، ولا يَنْظُر إليها، على أنَّها "جرائم"؛ وأحسب أنَّ هذا القانون هو بحدِّ ذاته جريمة كبرى ارْتُكِبَت في حقِّ الشعب المصري، وما زالت تُرْتَكَب في حقِّه، حتى في عهد مرسي؛ والدليل على ذلك هو الإفراج عن هؤلاء الثلاثة.
وإنَّها لرسالة بليغة تلك التي بعث بها القضاء المصري إلى الشعب المصري إذْ أفرج عن هؤلاء المجرمين الفاسدين القتلة؛ وكأنَّه أراد أنْ يُبْلِغ إلى الشعب (في رسالته) أنَّ هؤلاء الثلاثة، الذين ثُرْتُم عليهم، وعلى سيِّدهم، وعلى أشباههم، ليسوا بمجرمين، وليسوا بفاسدين، وليسوا بسُرَّاق للمال العام، وليسوا بقتلة؛ لا بل أبرياء، لا ذنب ارتكبوه، ولا عقاب، من ثمَّ، يستحقونه؛ والدليل على ذلك هو أنَّ "دولة القانون" قد برَّأت ساحتهم؛ لأنْ ليس من دليل يدينهم بما يبقيهم في السجن!
وفي "دولة القانون" هذه، ومن طريق قضائها، الذي يُعَامَل قادته على أنَّهم "بقرات مقدَّسة"، لا يمكن أبداً، إذا ما التزم القضاة القانون، نصَّاً وروحاً، إدانة مبارك نفسه؛ فلو اجتهد المجتهدون في جَمْع واستجماع الأدلة، فربَّما يتمكَّن القضاء من إدانته بتهمة من قبيل إلقاء عقب سيجارة من نافذة سيَّارته؛ أَلَمْ يُدَن سيف الإسلام القذافي بتهمة من هذا القبيل والوزن؟!
لقد آمن المصريون زمناً طويلاً بوَهْم "استقلال القضاء" عن "السُّلْطة" حتى في اللحظة الحاسمة من الصراع بينها وبين الشعب؛ فإذا باحتدام هذا الصراع يُسْبِغ عليهم نعمته، ويريهم "الجهاز القضائي" بعيون يقظة لا تغشاها أوهام، ويدعوهم إلى الإيمان القويم، ألا وهو الإيمان بأنَّ مبارك مُمْتَدٌّ، يَضْرِب جذوره عميقاً، في هذا الجهاز، وفي غيره من أجهزة "الدولة العميقة"؛ وليس ممكناً، من ثمَّ، أنْ تنتصر الثورة إلاَّ بثوَّارٍ اغتسلوا، عقلاً وشعوراً وإرادةً وسلوكاً، من هذا الوهم، وأشباهه؛ وما أكثرها!
كان ينبغي لهؤلاء الثوار ألاَّ يَقَعوا، أو يُوْقِعوا أنفسهم، في شرك "الوثنية القضائية (والقانونية والدستورية)"، فيَنْظُروا إلى المضي قُدُماً في هَدْم أُسُس نظام حكم مبارك في "السلطة القضائية (وفي "المحكمة الدستورية العليا" على وجه الخصوص)" على أنَّه سعي فوضوي، لن يتمخَّض إلاَّ عن "دولة مَنْزوعة القانون والقضاء والمحاكم والدستور"، وكأنَّ هَدْم "النظام القانوني والقضائي والدستوري القديم" هو هَدْم ل "النظام القانوني والقضائي والدستوري على وجه العموم (أو على وجه الإطلاق)"!
مبارك، ونجلاه، وزوجته، ورجاله، كان يجب أنْ يساقوا إلى محكمة ثورية، لا أثر ل "البلاهة (والوثنية) الدستورية والقانونية" في رجالاتها وأحكامهم، فيُعاقَبوا أشدَّ عقاب على ما ارتكبوه من جرائم واضحة جلية في حقِّ الشعب المصري وثورته؛ فهذه "اللحظة من الدكتاتورية الثورية"، والتي لا يعترض عليها إلاَّ كل من له مصلحة في تمكين الأوهام الدستورية والقانونية من عقول الثوَّار، هي التي تؤسِّس للدولة الديمقراطية المدنية الحقيقية، وتَهْدِم أُسُس نظام الحكم القديم، وتَمْنَع، من ثمَّ، مهزلة "الجبل الذي تمخَّض فولد فأراً"؛ ولقد تمخَّض جبل الثورة المصرية العظيم عن هذا الفأر؛ وإلاَّ ما معنى أنْ يتجرَّأ قضاء مبارك، الممتد في عهد مرسي، على أنْ يخاطِب الشعب المصري وثورته العظيمة قائلاً: لقد ثُرْتُم على أُناس أبرياء براءة الذِّئْب من دم ابن يعقوب!
"الربيع العربي" لم يَكْتَمِل بَعْد، ولم ينتصر بَعْد؛ فهذا "الربيع" يحتاج، ويشتد احتياجاً، 
!إلى "كثيرٍ من روسو"، وإلى "شبيه باليعاقبة"، وإلى "شيءٍ من روبسبير"
بقلم :جواد البشيتي