قيادة مدنية للداخلية
لاأمل في إقامة نظام ديمقراطي ما لم يتم إصلاح القطاع الأمني. ولا أمل في الإصلاح الأمني إذا ترك لرجال الأمن وحدهم، هذه خلاصة انتهى إليها الدكتور عمر عاشور في دراسته عن إصلاح القطاع الأمني التي أشرت إليها يوم الخميس الماضي (14/2). وقد وجدت أن استعراض مضمونها بات مفيدا بعدما ترددت الشائعات عن احتمال تغيير خامس وزير للداخلية بعد الثورة، كما أن الأخبار تحدثت عن إضرابات بين الشرطة التي يطالب بعضها بتسليحها لتتمكن من مواجهة الاعتداءات والمظاهرات. ويطالب البعض الآخر بتحسين الأوضاع، ذلك بخلاف الأخبار المتناثرة في الصحف التي تتحدث عن عمليات التعذيب والتي يتعرض لها النشطاء والمتظاهرون.
إلى غير ذلك من القرائن التي تشير إلى أن جهاز الشرطة بوضعه الحالى ما يزال أقرب ما يكون إلى نظام مبارك، وليس إلى قيم الثورة وأجوائها. لا أريد أن أقلل من الجهد الذي بذل في إصلاح الجهاز، خصوصا حين تم إقصاء نحو 670 ضابطا كبيرا بإحالتهم على التقاعد (منهم 505 برتبة لواء)، وحين بذل الوزراء المتعاقبون جهودا متفاوتة للإصلاح، كما أنني لا أنكر أن جهدا مقدرا ومبادرات عدة (عددها عشر تقريبا) قدمتها جهات عدة شارك فيها بعض الضباط مع عناصر تمثل المجتمع المدنى، إلا أن الثابت حتى الآن أن ذلك لم يحدث تغييرا جوهريا في أداء جهاز الشرطة يبيض صفحته ويغسل خطاياه. الثابت أيضا أن كبار المسؤولين عن الإذلال والتعذيب سواء قبل الثورة أو بعدها، لم يعاقبوا على ما اقترفوه من جرائم (رغم أنه لا مقارنة بين نطاق التعذيب قبل الثورة وبعدها، حيث كان قاعدة في الأولى واستثناء في الثانية). وفي 39 قضية رفعت بعد الثورة اتهم فيها ضباط الشرطة بقتل المتظاهرين تمت تبرئتهم في 36 قضية وهناك ثلاث قضايا أخرى ما تزال منظورة أمام المحاكم.
لقد أثبتت خبرة السنتين اللتين أعقبتا ثورة 25 يناير أن إصلاح جهاز الشرطة يتطلب حلولا أكثر جذرية وعمقا، وأن الجهد الذي بذل في هذا الصدد ظل قاصرا عن تحقيق هدف الإصلاح المنشود؛ إذ ليس سهلا ولا ميسورا تغيير ثقافة وهوية جهاز يضم مليون ونصف المليون شخص. عاشوا لأكثر من ثلاثة عقود في ظل قانون الطوارئ يمارسون القمع والتزوير والعدوان على كرامة الناس وانتهاك حرمة القانون.
من الأمور التي يدعو إليها الباحث لحل عقد ورواسب جهاز الشرطة، إخضاعه لقيادة مدنية مع وضع إطار قانوني واضح لتحديد اختصاصات الأجهزة الأمنية (اختصاصات جهاز أمن الدولة - الأمن الوطني - غامضة، هذا القطاع دون غيره وهو الوحيد الذي لم يتم الكشف عن هيكله الداخلي على موقع وزارة الداخلية).
في إسبانيا أخضعت الشرطة لقيادة مدنية بصورة تدريجية بعد وفاة الديكتاتور الجنرال فرانكو في عام 1975، وفي التسعينيات لجأت جنوب أفريقيا إلى وضع برنامج شامل للدفاع الوطنى وإنشاء هوية مهنية جديدة لأفراد المخابرات مع وضع ميثاق شرف أكد الالتزام بقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتمسك بالحياد السياسي. وفي آخر التسعينيات ألغت أندونيسيا عسكرة الشرطة وأخضعت الأجهزة الأمنية للرقابة الشعبية من خلال ثلاث لجان برلمانية، وفي عام 2004 ألغت جورجيا عسكرة الشرطة، وتولى سياسيون مدنيون مناصب وزير الداخلية ونائبه ورئيس جهاز الاستخبارات، ووقعت وزارة الداخلية مذكرة تفاهم مع منظمات حقوق الإنسان لمراقبة مراكز الاحتجاز والسجون.. الخ.
بشكل عام، فإن أجهزة الأمن ذات المهنية العالية في الديمقراطيات الراسخة يتم مراقبتها من خلال جهات مدنية خارجية، كما هو الحال مع لجنة الاستخبارات والأمن في البرلمان البريطاني أو لجنة مراقبة الاستخبارات الأمنية في البرلمان الكندي، وعادة ما تمتلك تلك اللجان سلطة الاطلاع على المعلومات المتعلقة بأنشطة أجهزة الاستخبارات وتقديم تقارير بشأنها إلى الحكومة أو البرلمان.
نبه الباحث على أن إصلاح القطاع الأمني يعد عملية سياسية من الدرجة الأولى، وهذا البعد السياسي يمكن أن ينجح أو يفشل المشروع السياسي برمته، حتى باتت سيطرة المؤسسات المدنية الممثلة للإرادة الشعبية على القطاع الأمني المسلح، تمثل نقطة الفصل الحقيقية بين الأنظمة الديمقراطية ونظيرتها الاستبدادية.
من التوصيات التي انتهت إليها دراسة الدكتور عمر عاشور الأستاذ بجامعة اكستر البريطانية والباحث بمركز بروكنجز الدوحة ما يلي: تشكيل لجنة رئاسية تختص بإصلاح القطاع الأمني - وضع آليات رقابة فعالة لقطاع الأمن - ضمان تدريب أعضاء البرلمان على رقابة المؤسسات الأمنية - تطهير وزارة الداخلية ومكتب النائب العام - تغيير معايير الترقية في وزارة الداخلية - إجراء مراجعة شاملة لنظم ومناهج تدريب أكاديمية الشرطة - إعادة هيكلة وزارة الداخلية وتقليل عدد موظفيها - صياغة قانون جديد للشرطة - تدريب قوات الأمن المركزي على أساليب مكافحة الشغب غير القاتلة.
بطبيعة الحال فليس هذا آخر كلام في الموضوع، لكنه اجتهاد يقبل التعديل والمناقشة. والاجتهادات مهمة لا ريب، لكن الأهم منها هو الرغبة في الإصلاح والقدرة على إنجازه؛ إذ بغير الرغبة والقدرة يصبح الاجتهاد نوعا من الثرثرة واللغو لا يقدم ولا يؤخر.