لا يفل الحديد إلا الحديد



الإعلام والصحافة في أي مجتمع هما المرآة التي تعكس مكنونات الأفراد وثقافتهم ومدى ما يتمتعون به من انفتاح وجرأة في التعبير والخوض بحرية بالقضايا ذات الإرتباط بنهج الدولة والتي تنعكس بشكل مباشر على الوطن والمواطن. والمراقب للإعلام والصحافة في الأردن في السنتين الأخيرتين يظهر له جليا أن هناك نقلة نوعية لحد ما رغم تشريع قانون يحد من سمات هذه النقلة الإنفراجية ولم يطبق بعد. لا ننكر أن هناك انفراج بالمساحة النقدية متمثلة بنوع القضايا التي يتم تناولها والتطرق لأشخاص ارتبطت أسماؤهم بقضايا لم تكن الصحافة تتجرأ على طرحها. والإنفراج هذا جاء افرازا للإنفجار العربي وينظر له على أنه أخف ضررا وأقل كلفة من عدم وجوده طالما لا توجد استجابة من قبل الدولة تتناسب مع المطالب والرغبات الشعبية العامة. ولسان حال الدولة يقول لنتركهم يطالبوا ويصرخوا بما يحلو لهم ونحن نستجيب لما وكيف وحينما يحلو لنا. 
نلاحظ الفضائيات الأردنية في سباق محموم على استضافة المعارضين المنظمين وغير المنظمين وأصحاب الرأي والمحللين والمشاركين بفعاليات الحراك كي تتيح لهم الإدلاء بدلوهم بالهم العام وقضاياه التي تشغل الناس. ونلاحظ كذلك أن مفردات ومصطلحات النقد وإظهار مواطن الخلل والإشارة للمتسببين به قد اتخذت منحنى تصاعديا يدل على فداحة وخطورة مادة النقد وبالوقت نفسه التحول من مرحلة الخوف والتخوف إلى مرحلة ذات هامش عالٍ من الإنفراج بالمقاييس العربية التي اعتدنا عليها. 
فبعد وقوع ما كان مستبعدا من وجهة نظر النظام في تونس بن علي بعد أن اغتصب الحكم وجثم على صدر شعبه ليعد عليه أنفاسه, زحفت نيران التغيير لتطال مصر مبارك الذي خدم اسرائيل أكثر مما خدمتها أمريكا. وليبيا القذافي الذي تعامل مع الليبيين وكأنهم عاملون بمزرعته. ويمن صالح الذي ظن أنه لا يمكن أن تلد اليمنيات سخصا بمواصفاته. وسوريا الأسد الذي يدك المعارضة ويقاوم المؤامرة. والوقت لم يحن بعد ليطال بقية من ظنوا أنفسهم مرسلون من الرب. هناك من استجاب منذ البداية لمطالب الشعب واستراح وأراح مجنبا بلاده ويلات الثورات والإحتجاجات كملك المغرب وسلطان عمان وهناك من يحاول شراء الوقت لإطالة حياة الألوهية والإستعباد مكابرا بالمحسوس ورافضا الحلحلة ظنا منه أنها غيمة عابرة وستنقشع. 
الأنظمة التي هلكت جعلت من نفسها آلهة لتعبد وسادة ليطاعوا ومالكين ليمنحوا ومخلدون بذرياتهم والشعب فاني, ناسين أو متناسين أنها لو دامت لسابقيهم لما وصلت لهم. لقد نهجوا نهج الأمر والطاعة والقبول والرضا بما يصنعون. فكانوا حكاما مطلقين لا دستور يقيدهم ولا يحق لأحد معارضتهم. كما كانوا شموليين فانقلبت شموليتهم عليهم وأهلكتهم ولم تصمد أمام شمولية الشعوب التي وإن تحملت وصبرت فلن تتحمل وتصبر إلا ما لا نهاية. زمن ثري بالعبر والدروس لمن يريد الإعتبار. 
في الأردن الحال ليس بمنأى عن نيران التغيير من حيث الحريات العامة والعدالة الإجتماعية والأحوال المعيشية مضافا لها الفساد والمحسوبية والتوريث والشعور العام بوجود صفوة تقرر ما تشاء ورعاع مطلوب منه القبول والإنصياع. لكن ما يميزنا ويجعلنا مختلفين عن باقي البلدان أن نظامنا الحاكم ليس قمعيا وليس دمويا وليس تصفويا بل نظام منفتح يؤمن بحرية التعبير والرأي وحق النقد وهو إرث كرسه الحسين طيب الله ثراه ومارسه واستفاد منه خلفه الملك عبدالله. 
لذلك كانت استحقاقات الإنفجار العربي مع وجود قابلية التسامح وعدم اللجوء للقمع والتصفية هي الأسباب التي تقف خلف ما يتمتع به الإعلام والصحافة فضائيا وورقيا وإلكترونيا من هامش واسع نسبيا من الحرية بالمقارنة بالفترة التي سبقت الإنفجار العربي. فهي حرية مسببة ومبررة لمنع وتجنب ما هو أشد وقعا وخطورة بحال غياب حرية التعبير. ولو تم قمع أو إقصاء أو تصفية أصحاب الرأي مع وجود سلحفائية الإصلاح لانفجر الوضع ولم نعد نختلف عن الدول التي شملها التغيير. فكانت خطوة تتحلى بالحكمة لكنها لا تكفي ولا تحاكي حجم القضايا العالقة والتي تنتظر حلولا ناجعة. لا وجود لمن ينكر أن ما كان بالأمس محرما صار اليوم محللا وما كان يؤدي للسجن والمحاربة صار مقبولا ومسكوتا عنه حتى علت شعارات الإحتجاج والتعبير. 
والمتتبع للحراك يلاحظ ان مطالبه في البداية لم تتعدى المطالبة بالإصلاح من خلال محاربة الفساد واقتياد أصحابه للقضاء. والمعارضة هي أيضا طالبت بالإصلاح في البداية ثم لجأت للتصعيد مطالبة بالمشاركة بالحكم وتحديد صلاحيات الملك. الشعارات العامة تحولت من المطالبة بمحاربة الفساد لشعار "إصلاح النظام" وما لبث هذا أن تحول وإن من فئة محدودة وربما بشكل فردي غير منظم لشعار "إسقاط النظام". 
هذا التطور في التعبير الذي أخذ منحى التصعيد لاحقا جاء نتيجة لعدم الإستجابة المنتظرة بادئ الأمر أو ضعفها أو للتباطؤ أو لأنصاف الحلول التي جاءت كحلول مهدئة لقضايا كبيرة مستعصية كلفتنا الكثير ويطالب بها الحراكيون والمعارضة والناس العاديون. أما الشعارات التي توصف بخرق السقوف جاءت بمثابة صرخة استغاثة مدوية وطلب للعون والإنقاذ لإيصال رسالة لولي الأمر ورئيس السلطات الثلاث جلالة الملك بأن الأمر جد خطير وبحاجة لتدخل سريع, ولا نعتقد أن المقصود معنى الكلمات بحرفيتها. 
من الحكمة والعقل أن يؤخذ هذا التحول على محمل الجد من حيث البحث عن الدوافع والأهداف ودراستها وتمحيصها لبيان مدى شرعيتها وصوابيتها والخروج باستراتيجية لطرح الحلول الشافية والجذرية للمشكلات العالقة التي تشغل عموم الناس. وبهذا نتجنب نظاما وشعبا الكثير من التبعات الباهظة التكاليف. وإغفال هذا التصعيد يعني أن عقلية التعالي وسياسة التخدير وعدم الجدية بتعديل المعوج ما زالت هي المسيطرة على تفكير ونهج أصحاب القرار. كما يعني ذلك أنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا مما آلت إليه الأوضاع في البلدان ذات الحكام الإلهيين. والإستمرار بهذا النهج المثير للإستغراب يعني أن هناك أناس يدفعون نحو نهاية المملكة الأردنية الهاشمية. الزمن لا يمضي بصالح النظام وبالتالي ليس بصالح الوطن بمواطنيه. ونتيجة لهذا الشعور المتنامي, أصبحت تتولد قناعة تترسخ شيئا فشيئا لدى الناس الغيارى بأن لزاما عليهم يزداد إلحاحا ليصنعوا ما يمكنهم لحماية وطنهم وأمنهم واستقرارهم وثوابتهم ودعامات كيانهم. 
هل النظام ومستشاروه وناصحوه والدولة بمخابراتها وأمنها ودركها لا يقرأون ما يكتب ولا يسمعون ما يقال ولا يشاهدون ما يعرض؟؟ بالتأكيد أنهم جميعا يفعلون. السؤال: لماذا الإستجابة تكاد تكون معدومة أو تأتي متأخرة؟؟ هل عدم الإكتراث مع وجود عقلية الإستخفاف هما وراء ذلك؟؟ المحاسبة لغاية اللحظة لا ترقى للحد الأدنى من حجم ما يتوقعه الناس. هل ذلك يعني ترك الشارع يقول ما يشاء والدولة تفعل ما تشاء؟؟ إلى متى سيستمر بنا الإنحدار والإنجرار خلف جرائر من لا إنتماء لديهم ولا رابط يربطهم بالأردن ومواطنيه؟؟ 
إذا كان طرحنا هذا والذي يأتي نتيجة استقراء آراء كافة الشرائح ويعطي صورة عن الواقع الذي يراه كل الأردنيين يجانب الحقيقة والواقع, فما يمنع من خروج أحدهم "بالشفافية المعهوده والمصداقية المستدامة" ليشرح للناس الأسباب التي تمنع المحاسبة والمقاضاة؟؟ لقد أصبحت الدولة مدانة بتفسير السماح للكثير من الفاسدين بإخراج أموالهم المشبوهة مصادرها ومغادرتهم لوطن احتضنهم فسلبوا خيراته وباعوا ممتلكاته وأفقروا شعبه. 
هناك أموال تأتي في سياق المساعدات من دول شقيقة وصديقة ويتم الإعلان عنها من قبل الجهات الرسمية المتلقية لها وسرعان ما تتبخر وتظل طريقها إلى مجهول. هل الإعلان عنها موجه للمانحين فقط من قبيل الإشهار والعرفان بالجميل والقطعان لا يعنيها الأمر؟؟ لا نختلف على كفاءة واحترافية أجهزتنا الأمنية وخصوصا المخابرات وهي جميعها موضع فخارنا وتقديرنا واحترامنا ولهم الشكر والعرفان بنشر الأمن واكتشاف الدسائس والخبائث والمؤامرات وعمليات الإخلال بالأمن وزعزعته. لقد بات من حقنا عليهم أن نجاب عن السؤال التالي: لماذا الكفاءة والسرعة وكشف المستور قدرات لا نراها تستخدم مع الذين يتآمرون على الوطن ومقدراته والذين يتواطؤون لإشعالها نارا تأكل الأخضر واليابس؟؟ ولماذا ترك الفاسدون الهاربون منهم والمخططون للهرب لتكشفهم بشاعة فسادهم أو يفضحهم صحفي أو غيور؟؟ ألستم أنتم العالمون ببواطن الأمور والعارفون لما يمكن أن يحاك بالظلام؟؟ أليس كل ذلك من صميم واجبكم؟؟ 
والله لا نقصد أن نزيد الهموم ولا نسعى للتأجيج والتقريع أو النقد كهدف بحد ذاته, لكن ما نراه من تخاذل ينعكس وبالا على الوطن والمواطن, يُلزمنا أن نمارس واجب مواطنتنا تجاه وطننا ونبرز أردنيتنا تجاه أردننا وانتماءنا تجاه أرض نبتنا منها وبها. ونرى سكوتنا وعدم تذكيرنا بالمخاطر والسلبيات التي نلحظها هنا وهناك هو مشاركة ودعم وتأييد وتقوية للذين أفسدوا وسرقوا وباعوا, وتلك الخيانة بعينها إذ لا نقبل أن نصنف مع الخونة والبرامكة والدخلاء ونحن مطالبون بالذود عن الوطن وحمايته من الباعة والسماسرة. 
وحقيقة, رؤية المخاطر بعين الأجهزة الأمنية فقط لا تغني عن رؤيتها بعيون الغيارى. ربما الأجهزة الأمنية تزن الأمور بالمعايير الأمنية البحتة والمجردة لكن المواطن يزنها بمعيار البقاء وعدمه. ولكم أن تتخيلوا مدى أهمية بقاء الإنسان ومدى خطورة أن يتعرض هذا البقاء لتهديدات الفناء. 
المسؤولية لا تسقط عن الدولة وأجهزتها عندما تسمعنا أن الأردن مستهدف وهناك قوى شد عكسي ومحاربون للإصلاح. المسؤولية أصبحت أعظم وأكبر مما يجعل المواطن بانتظار اتخاذ خطوات تبرر وجود الخطر. ما دمتم تنادون بالإصلاح فلماذا لا تحاربون من يعيق مسيرته؟؟ وما الفائدة بالتالي من تشخيص المرض دون العمل على توفير العلاج الشافي؟؟ 
الناس باتوا منقسمين بين رأيين كل منهما أسوأ من الآخر. الأول يقول بغياب الرغبة بالإصلاح الحقيقي والمطلبي والثاني يقول بغياب القدرة على ملاحقة من لا يريدون الإصلاح ويعملون على زيادة الفساد لإشعال نار تحرق الجميع. 
حمى الله الأردن والغيارى على الأردن. والله من وراء القصد.