تفويض الشعب للملك

من حق الملك الآن أن يختار الشخصية السياسية الاقتصادية القادرة على ولاية الدولة للمرحلة المقبلة ، ولا أظن أن هذه الشخصية يمكن أن تكون من داخل مجلس النواب على اعتبار أن النواب مشغولون في طبخة المجلس بمواقعه من الرئاسة إلى مكتب اللجان الدائم . والمتبصر في حالة الفوضى التي يعيشها النواب ، وتبعثر الآراء وضعف التكتلات وتشتتها تجعل من الصعب التنبؤ بتشكيل ائتلاف قادر على توحيد الرؤى والبرامج ، وبالتالي تشكيل أغلبية مطلقة تجتمع على اختيار رئيس البرلمان ورئيس الحكومة وتوزيع المناصب بينهم . هذا إضافة إلى التخوف من سيطرة المراهقة السياسية في البرلمان وتمكنها من صنع قرار البرلمان والحكومة .
المتفحصون لأعضاء البرلمان ، مقتنعون تماما بخلو البرلمان من شخصية برلمانية تمتلك المواصفات التي تؤهلها لولاية الحكومة أو لنقل تشكيل حكومة برلمانية مكملة لمجلس النواب ومتناغمة معه وقادرة على مواجهة متطلبات المرحلة المقبلة التي تشهد تحديات سياسية واقتصادية كبرى ، لا يقوى التعامل معها، إلا بأناس بلغوا من الخبرة والدراية والعمل الرسمي السياسي والاقتصادي شوطا طويلا وعريقا .
أيام عديدة مرت على النواب ، وهم يتحاورون من أجل وحدة المجلس من دون فائدة ، ومن دون أن يتوصلوا لقناعات مشتركة تمحو كل التصريحات السابقة المتسرعة ، وتؤسس لبرلمان يلتقي فيه نشاط النائب الجديد وخبرة النائب القديم للخروج بمنتج برلماني يتواءم مع استحقاقات المرحلة والتحديات التي يواجهها الأردن .فالتجارب الائتلافية في البرلمانات السابقة بينت أن تشكل هذه الائتلافات سرعان ما يذوب ويختفي أو يبقى شكليا حال الانتهاء من انتخابات المجلس ويمكن أن يستمر بشكل مؤقت إلى ما بعد تشكيل الحكومة لتظهر الانسحابات وتتعدد الكتل الصغيرة ، التي قد لا يتجاوز عمرها الدورة العادية الواحدة.
الملك الذي يمثل قاسمنا المشترك ويرقب عن كثب هذا المشهد ، ويرى بعين المواطن ، يجد نفسه أمام خيار هو بمثابة تفويض شعبي عارم نحو حماية مسيرة البناء والاصلاح وحماية دور السلطة التنفيذية باختيار الاكفأ والأنسب والسلطة التشريعية بضمان حرية قراره وعدم التأثير أو التشويش عليه ، وسير السلطات بخطوط متوازية كل يكمل الآخر . تفويض الملك جاء من تلبية المواطن لنداء الوطن وقبوله التحدي بمشاركته العالية بالانتخابات النيابية ، ورفع نسب التصويت عن حدودها المعتادة والأرقام التي تم الرهان عليها ، بعد أن ضمن الملك نزاهتها ، وبيّن أهميتها لحاضر ومستقبل الوطن ، فاستجاب الناس لهذا النداء لقناعتهم بحرص الملك على هذا الوطن بكل مكوناته ومقدراته ، من هنا فإن تكليف الشعب للملك بهذا الاختيار هو حق دستوري أيضا ، مادامت شرعية من يختار لا تكتمل إلا بثقة ممثلي الشعب الذين اختارتهم غالبية القواعد الشعبية . إننا بانتظار اختيار الملك لهذه الشخصية التي أصبحت معالمها معروفة لكثير من الناس نظرا لوضوح أولوياتنا وتحدياتنا وثوابت الملك الوطنية . فتوقعنا انسجام الشخصية المختارة مع هذه الرؤى باعتبارها من الأدوات المهمة جدا في مسيرة الاصلاح الذي نريد ونهرول للوصول اليه.
تشكيل الحكومة سيكون بالطريقة المعهودة. فبعد أن يختارها الملك تقوم بالتشاور مع كتل وائتلافات المجلس، خاصة التي بلورت أفكارها وبرامجها ، وليُعِن الله هذا الرئيس الجديد عندما يقف وسط هذا الزحام الكثيف ، على اعتبار أن ارضاءهم جميعا غاية لا يمكن أن تدرك . من هنا فإن اختيار الوزراء يجب أن يركز على التكنوقراط أصحاب الخبرات الطويلة والشفافة والنزيهة.
حالة المجلس ومسيرة عمله بدأت تظهر معالمهما التي تتصف بتعدد الأفكار والاتجاهات والرؤى والتطلعات ، ولا يمكن ضبط عازفي هذه الأوركسترا الا بوجود رئيس قوي للمجلس قادر على أن يحدّ من التشتت والتبعثر ويحافظ على مسيرة وأداء المجلس وإعادة شطحاته إلى مسارها الصحيح . وهذا يعني أن يتوافق النواب على شخصية سياسية تمتلك الخبرة والقبول من غالبية النواب ، فالحقيقة والمنطق والواقع تقول أن استحقاقات هذا المجلس والمطلوب منه أعباء لا يستطيع النائب الجديد القيام بها خاصة وأن أولوية المجلس تعديل النظام الداخلي وإعطاء الملف الاقتصادي الأولوية القصوى .