لبيب قمحاوي يكتب ....الأردنيون بلا خيارات: الحقيقة المرة

 
اخبار البلد-يخضع الأردنيون لعملية تخويف مستمرة من إمكانية تحول الأردن إلى ساحة صراع فيما لو تم الإصرار على المضي في مسيرة الإصلاح الحقيقي والشامل. ويتم استدعاء فزاعة ما يجري خارج الحدود الأردنية من دمار وخراب وفوضى وبالتحديد في سوريا ومصر وليبيا لتعزيز تلك المخاوف. وبالرغم من ذلك فإن الوضع في الأردن يختلف في واقعه كون المطالب الشعبية لم تصل إلى حد تغيير النظام كهدف منشود، إذ أن هنالك منذ البداية وضوح إلى حد الإصرار على بقاء النظام ولكن وبنفس القوة على ضرورة إصلاح ذلك النظام. 
إن تخوفات المواطن الأردني طبيعية ومشروعة خصوصاً أنه اقترب إلى حد الثمالة من المآسي التي يعيشها الأشقاء في سوريا وقبل ذلك في العراق. وقد ساهم ذلك في تحويل الأمن والاستقرار من استحقاق طبيعي وأمر مفروغ منه في ذهن المواطن إلى هدف، بل وكنز يريد الجميع أن يحافظ عليه. ولكن النظام في الأردن لم ينظر إلى الأمور بنفس الطريقة التي ينظر بها المواطن. فالتلويح بإمكانية فقدان الأمن والاستقرار أصبح المطرقة التي يستعملها النظام لإعادة تشكيل المواقف الشعبية من عملية الإصلاح من خلال الإيحاء الخاطئ لهم بأن الإصلاح قد يؤدي إلى المجهول، والمجهول قد يؤدي إلى الفوضى وانعدام الأمن، وأن الإصلاحيين هم بالتالي إحدى أدوات التخريب وتدمير الأمن والاستقرار. 
لم يكتفِ النظام بدفع الأمور في هذا الاتجاه، بل عمد إلى تجاهل معظم قوى الإصلاح الشبابية والمدنية واتجه بكامل إمكاناته وعن سبق إصرار وترصد إلى التــــعامل مع الحركة الإسلامية باعتبارها القوة الرئيسة والوحيدة التي تمثل قوى الإصلاح في الأردن. وهو بذلك دفع إلى سطح العمل السياسي المعلن بمعادلة الثنائية التي تتكون من طرفين اثنين: النظام والحركة الإسلامية ! وهكذا دفع النظام الشعب في طريق ضيق مسدود يؤدي إلى خيار اللا خيار.
بعد انقضاء ما يقارب من عام على الحراك الشعبي، انتقل النظام من مرحلة 'الانحناء للعاصفة' والتي ميزت علاقته ببدايات الحراك، إلى مرحلة جديدة تسعى إلى الاستيلاء على شعار الإصلاح واعتباره نهجاً للحكم قبل أن يكون مطلباً للشعب. وشهد العام الثاني من الحراك اختطاف مطالب حركة الإصلاح من قبل النظام وإعادة إنتاجها بشكل يناسبه. وابتدأت إفرازات هذه السياسة بالظهور على شكل عناوين براقة دون محتوى حقيقي ومؤثر واتسمت هذه المرحلة بالإصلاحات التجميلية. وخرج علينا النظام بلجنة ملكية لتعديل الدستور غالبيتها من الشخصيات المحافظة والمعادية للإصلاح والتعديل الجدِّي للدستور. وتم تشكيل لجنة حوار وطني خرجت بتوصيات معتدلة جداً لقانون انتخاب جديد وتم إهمالها بشكل كامل، كما تم تشكيل الهيئة المستقلة للإشراف على الانتخابات وكانت باكورة أعمالها الانتخابات النيابية الأخيرة والتي لا تخفى ملابساتها عن أحد. وأخيراً جاءت المحكمة الدستورية التي عيَّنها رأس الدولة دون أي مشاركة من أي من مؤسسات الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني في عملية الاختيار، ودون أي إمكانية لأي مواطن أو أي من مؤسسات المجتمع المدني من اللجوء إلى تلك المحكمة مباشرة. 
نجح النظام الأردني من خلال الإجراءات التي ميزت مرحلة 'الإصلاحات التجميلية' بأن يسوق نفسه في الخارج، وخصوصاً لدى أمريكا والغرب، بأنه نظام إصلاحي متفاعل مع مطالب شعبه، حيث خلق قناعة لدى العالم الخارجي بأن المزيد من الإصلاح سوف يؤدي إلى تولي الإسلاميين زمام الأمور. وسواء اقتنع العالم الخارجي بذلك أم لا، فإن الهدوء والاستقرار على حدود إسرائيل الشرقية هو أولوية تفوق في أهميتها دعم حقوق وآمال الشعب الأردني. وهكذا دفع الشعب الأردني ثمن الوهم الذي خلقه النظام من أن الإصلاح الحقيقي الشامل سيؤدي إلى الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار. وهكذا بدا أن النظام نجح خارجياً ولكنه فشل داخلياً في إقناع الشعب بصدق نواياه الإصلاحية خصوصاً وأن مطالب الإصلاح ارتبطت بشكل عضوي بمطلب مكافحة الفساد ومحاكمة رموزه واسترجاع الأموال المنهوبة وهو مطلب كان من الصعب جداً على النظام القبول به في حينه. 
بعد أن عبر مرحلتي 'الانحناء للعاصفة ' و 'الإصلاحات التجميلية' انتقل النظام إلى المرحلة الثالثة. وأخذ يعمل بهدوء وصمت على وضع أسس المرحلة المقبلة والتي نحن بصددها.
تتميز المرحلة الثالثة بالاستجابة المحسوبة لمطلب فتح ملفات الفساد بعد أن تم التأكد من إمكانية السيطرة المسبقة على أي نتائج سلبية قد تتمخض عن فتحها ومحاكمة المتورطين فيها. كما تم التحضير للانتقال من ثنائية النظام والإسلاميين إلى الانفتاح على معظم قوى المجتمع مما يعني أن النظام قد قرر الانتقال من موقعه السابق كطرف في ثنائية خلافية إلى كونه مظلة للجميع بعد أن نجح ولو جزئياً في تصنيف نفسه كقائد لبرنامج إصلاحي عوضاً عن كونه مُستهدفاً من عملية الإصلاح. وقد ساعده في ذلك أنه يلتقي مع كثير من قوى المجتمع الأردني في رفض تولي الإسلاميين الحكومة. والهدف غير المعلن لهذه المرحلة هو إغلاق ملف الإصلاح الحقيقي باعتباره يمثل شططاً ومغالاة مقارنة بالواقعية التي يدّعيها برنامج الإصلاح الذي يتبناه النظام. 
وقد رافق ذلك إجراءات تهدف إلى مأسسة وقوننة البرنامج الإصلاحي للنظام من خلال إجراءات كان من أهمها قانون الانتخاب (الصوت الواحد) والإصرار على إجراء الانتخابات على أساسه. وقد قامت حكومة فايز الطراونة التي أصدرت ذلك القانون بوضع شواخص المرحلة المقبلة وحدود الإصلاح والديمقراطية وحرية التعبير التي سوف يسمح بها النظام. وهكذا تم إصدار القانون المعدل لقانون المطبوعات والذي أثار ضجة واحتجاج كبيرين، وتم تسييج الساحات التي تستعملها الحراكات الشبابية بالحديد وتم اعتقال العديد من قيادات تلك الحراكات وتحويلهم مع قيادات سياسية أخرى إلى المحاكم وتم حل البرلمان السادس عشر واستقالت حكومة الطراونة بعد أن أرست دعائم المرحلة المقبلة وحددت معالمها. 
رحلت بكل ما لها وهو قليل وما عليها وهو كثير وتم اعتبار ما قامت به سياسات حكومة وليس سياسة النظام !! 
وهكذا فقد شَكـَّل إجراء الانتخابات النيابية الأخيرة بداية المرحلة الثالثة التي تهدف إلى قوننة النهج الإصلاحي للنظام وبشكل يجعل من المعارضة للحكم مخالفة للقانون تستوجب المساءلة والعقاب. وقد تم تأكيد إصرار النظام على هذا النهج من خلال التعيين المبكر لفايز الطراونة رئيساً للديوان الملكي في خطوة استباقية لما سوف يتمخض عن انعقاد البرلمان الجديد من استحقاقات دستورية بما في ذلك تشكيل حكومة جديدة تم الوعد بأن تكون برلمانية دون النص على ذلك في الإصلاحات الدستورية، وهي بذلك تكون خطوة أقرب إلى المكرمة الملكية منها إلى الاستحقاق الدستوري والفرق بين الإثنين بالطبع شاسع وشاسع جداً. 
شكلت نتائج الانتخابات النيابية، ناهيك عن ما رافقها من ملابسات، صدمة للعديدين كونها دفعت إلى السطح بنواب أقرب ما يكونوا إلى من سبقهم ممن فقدوا ثقة الشعب. ولكن الحدث الأبرز كان في صعود حزب الوسط الإسلامي إلى واجهة العمل البرلماني. ولم يأت هذا التطور بشكل مفاجىء وغير محسوب. فهذا التطور يشكل جزءاً أساسياً من معالم المرحلة الثالثة التي تهدف إلى تحجيم الحركة الإسلامية المنبثقة عن حركة الإخوان المسلمين من خلال محاصرتها ومن ثم العمل على تشجيع الانشقاقات في داخلها. ويرافق كل ذلك خلق منافس إسلامي وسطي لها يحظى بثقة الحكم وحمايته ويعطي للآخرين مؤشراً على نوعية الإسلام السياسي المقبول من قبل مؤسسة الحكم. 
إذاَ نحن أمام مجلس نواب انتخب على أساس قانون إقصائي في محاولة للالتفاف على القوى الفاعلة في المجتمع الأردني، والاستعاضة عن مفهوم الحوار بمفهوم الاستبدال والإحلال والذي يستند في أساسه إلى قناعة لدى النظام بأن لهفة العديد من المواطنين على المنصب العام وما يرافق ذلك من ألقاب وامتيازات أمر لا يخفى على أحد، وأن أصحاب المنصب العام الكبير يصبحون بالضرورة نجوماً ساطعة في المجتمع لا يخلو أي فرح أو ترح من أحدهم. هذا الوضع العجيب ساهم في استخفاف النظام بالمواطن وقوّى من يده من منطلق أنه الوحيد القادر على تلبية هذا الطموح الغريب للمنصب والألقاب وهو أمر لا يكلف النظام شيئاً في حين أنه يكلف المستفيد غالياً.
يقف الأردنيون حتى الآن أمام طريق مسدود لا يؤدي إلا إلى خيارين كلاهما مر. والسبب في هذا المأزق يعود بشكل أساسي إلى النظام الذي قاوم حتى الآن كل جهد شعبي لإقناعه بالولوج في مسيرة إصلاح حقيقية. إن غياب الاستعداد لدى النظام لإعطاء تنازلات حقيقية يصعب تفسيره في ظل شبه إجماع وطني عام على بقاء نظام الحكم وعدم تغييره. وعوضاً عن الاستفادة من هذا الإجماع الفريد في المنطقة واستعماله كأساس قوي للقيام بإصلاحات حقيقية، قام النظام بالالتفاف على هذا الإجماع واستغلاله كوسيلة لتجنب ذلك الإصلاح. 
التحديات القادمة ستكون في معظمها اقتصادية وحياتية وسوف تصيب أكثر ما تصيب الأجيال الجديدة من الأردنيين، وعندها سوف يضطر النظام، فيما إذا أصر أن يحتفظ بكل السلطات المطلقة، أن يواجه عواقب التدهور الاقتصادي وحيداً من منطلق أن المسؤولية و المساءلة تتلازمان مع السلطة. أما إذا تم تقاسم السلطة كما ينص عليه الدستور، فإن المسؤولية والمساءلة سوف تتوزع بما يعكس ذلك. 
مصلحة الأردن والنظام والأمن والاستقرار تتطلب أن تتحول مؤسسة الحكم من نظام الحكم الفردي المطلق إلى نظام حكم ديمقراطي مؤسسي حسب ما ينص عليه الدستور وبما يؤدي إلى تداول السلطة بشكل سلمي وأن تقع مسؤولية اتخاذ القرار على مؤسسات الدولة الدستورية كل حسب اختصاصه ويكون رأس الدولة هو رمز الوطن. هذا هو الأمن والاستقرار الحقيقيين والباقي مصطنع. 
سياسي وأكاديمي أردني.