الدين والسياسة...؟

-الدين بالمطلق ""أي دين"" في وعيّ من يعتنقه هو علاقة خاصة بين الإنسان وربه ، ورؤية روحانية يحاكي الشخص من خلالها طقوسه لتأكيد عقيدته ، وكل يرى في عقيدته أنها الصح الوحيد وما دونها كُفر ، وإن أحصينا الأديان فهي بالآلاف ، والدين يُمثل في وجدان صاحبه الشرف ، الخُلق الحميد ، الإستقامة ، النزاهة وغير خاضع لأية قوة غير قوة الرب الذي يعبده هذا الشخص أو ذاك ، فيما السياسة وبالمطلق هي دهاليز عُهر ومباءَة بلا قيم ، أخلاق أو عقيدة كونها تُحاكي الواقع بالألاعيب ، الكذب ، التآمر ، النصب ، الإحتيال ، الغدر ، الإغتيال ، القتل والحروب وكلها في عُرف السياسة والساسة ، سبل مباحة لتحقيق المصالح والغايات ، ولاعلاقة للسياسة بما يُمثله الغيب من قداسة ، وما يمنحه للإنسان من سلام ، طمأنينة وتصالح مع الذات ومع الآخر ، ما لم يكن الشخص مصابا بمرض العُصابية ، التشدد والتزمت. 

-وفي الواقع المعاش فإن السياسة هي مصالح ولا شيئ غير ذلك، يتم تأمينها وتعظيمها بسياسات إختُزلت بالنظرية الميكافلية ""الغاية تُبرر الوسيلة "" ، التي لا وجود فيها لأي من القيم القدسية التي تعتمدها الأديان ويُمارسها الأتباع في المعابد، وفي لحظة زج الدين في أوكار ومواخير السياسة ودهاليزها ، فهذا يعني تلويث الدين والروحانيات بأمراض السياسة التي لا حدود لها ، ناهيك عن أن وصاية الدين على السياسة ، ستُفقد الأخيرة حُرية الحركة وتحط من قدرتها على تأمين مصالح الدولة والشعب المحكوم بالدين ، وما سيواجهه من قمع وجور يستلب حريته الشخصية ، وضياع حقه في نسج علاقته الخاصة مع ربه بالطريقة الأنسب إليه . 

-وعلى مدار العصور والأزمان التي شهدت شعوبها الحكم الديني ، إلا وكانت الفتن والحروب الدموية بين أطياف الشعب الواحد ومع شعوب أخرى ، خاصة وأن أهل الدين الواحد كل منهم يرى الدين بمنظاره الخاص في كثير من المسائل ، وعبر تفسيرات متباينة لأحكام ذلك الدين ، بدلالة أن كل دين فيه فرق ، مذاهب ، طوائف وملل ، واضحة إختلافاتها وتبايناتها . 

-وعلى ذلك نرى أن الدول التي تخلصت من وصاية الدين على السياسة ، كما هو حال أوروبا ، الأمريكتان ، جنوب شرق آسيا ، إستراليا وغالبية إفريقيا هي الأنجح سياسيا ، إقتصاديا ، علميا ، تقنيا وإجتماعيا والأكثر أمنا وإستقرارا ، وشعوبها تتمتع بالحرية ، الديموقراطية ، العدل ، المساواة وحقوق الإنسان ، ليتوقف الأمر حصرا عند مبعوثي العناية الإلهية في العالم الإسلامي ، الذين ما يزالون يغرقون في الأوهام ، إذ يرى بعضهم أن بمقدوره العودة بجزء من أهل القرية الكونية إلى الحكم الديني ، وتحت وصاية المرشد العام أو الولي الفقيه وما بينهما من زعامات ، المذاهب ، الطوئف ، الملل والنحل وما أكثرها . 

-إن كان كل ذلك في الإطار العام ، فإن ما يجري في مصر ""أم الدنيا"" ومزاج شعبها ""دي حاجتي ودي حاجة ربنا"" الذي يُعتبر وتوأمه الشامي ""مزاج الحياة"" والمدنية ، من أشد الشعوب العربية تجذرا في الأرض وتمسكا بها ، كحصيلة للنشأة الزراعية على ضفاف النيل في مصر ، وعدد من الأنهار ووفرة المياه في الديار الشامية قبل ضياع فلسطين ، وهو ما يدعونا للتوقف عند سعي المتدثرين بعباءَة الإسلام وفرض وصايتهم على شعوب المنطقة ، غير آبهين بما هي عليه هذه الشعوب من وعي وثقافة مدنية ، ترفض دكتاتورية الدين كما رفضت وترفض دكتاتورية الأحزاب الشمولية والحكام الطُغاة ، ولا يقل حال بقية الشعوب العربية عن حال مصر والديار الشامية وإن بتفاوت ، تراوح بين ظاهرة النفط ، المتغيرات الثقافية وبين تأثير الإستعمار وما أحدثه من تدوير ثقافي في جنوب الوطن العربي وشماله . 

-الحالة المصرية وبما هي عليه مصر من تميز ، إن من حيث عدد السكان ، التاريخ ، الجغرافيا، الحضارة ومخزونات الأرض تشكل أنموذجا حيا على ما ستكون عليه ردة فعل بقية الشعوب العربية ، بعد أن أُختطفت مصر من قبل جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها السلفية ، القاعدة ، النُصرة وغيرها من مسميات ، التي تعمل جاهدة على تفصيل الدستور والقوانين المصرية على مقاسها ، وبما يضمن لها فرض وصايتها على الشعب المصري أبديا ، بإعتبارها وكيلة الله على الأرض ،وبهذه الوكالة التي إجترحتها دكتاتورية الدين المُعششة في عقل المرشد العام وأتباعه ، تم تقويض مبادئ ثورة 
الشعب المصري العظيم ، فوجد نفسه يهرب من رذاذ دكتاتورية مُبارك وطغيانه ، فوقع تحت مزراب المرشد العام وصبيه محمد مرسي الأشد دكتاتورية وطغيانا وبإسم الإسلام ، فيما الإسلام الحنيف والسمح براء من هذه الطُغمة المُتأسلمة ، التي تمتطي صهوة الدين فيما على سبيل المثل لا الحصر ، تُمارس ذات العُهر الذي مارسه مُبارك غير المُبارك ، فها هي مصر المرشد العام تبيع ، تشتري ، تقايض وتتاجر بقضية فلسطين وعلى عينك يا شعب مصر وما قدمته وقدمه الفلسطينيون ، العرب والمسلمون ""غير المتأسلمين"" من شهداء وتضحيات. 

-الدين لله والوطن للجميع ، بغير هذا فإن أتباع المرشد العام حيثما كانوا ، في مصر ، العراق ، سورية ، فلسطين والأردن وأي مكان آخر ، سيذهبون بنا إلى الفوضى غير الخلاقة ، في زمن لم يعد يحتمل فيه الناس وصاية دينية من أحد ، ففي مصر كما في أرجاء الوطن العربي والعالم بأسره أُناس متدينون ويتبعون أديان ، مذاهب ، ملل وطوائف مختلفة وآخرون لا دين لهم ، لكن الجميع شركاء في الأوطان لهم حقوقا متساوية وواجبات متماثلة ، ولا يحق لأحد أن ينتقص من حقوقهم أو يعاقبهم هلى رؤاهم الدينية ، "" لكم دين وليَ دين ولو كَرِهَ الكافرون"" ، وبهذا أن يقبل الكافرون بدين محمد ""صلعم"" أو يرفضوه فهذا شأنهم ، ما دام الخلق جميعا في نهاية المطاف في ذمة الله عز وجل ، وليس في ذمة محمد ""صلعم"" وأتباعه من بعده ، وكما يُقال في الموروث الشعبي ، كل شاة مُعلقة من عرقوبها.
نبيل عمرو-صحفي أردني
nabil_amro@hotmail.com