خطاب الأزمة..أم أزمة الخطاب؟!


بعد طول انتظار، أطل الرئيس السوري بشار الأسد على العالم بخطاب لم يأت بجديد يمكن أن يحدث الانعطافة المطلوبة في مسار الأزمة الوطنية العامة التي تعتصر سوريا وتُوزّع السوريين ما بين قتيل وجريح ومعتقل ومختطف ومشرّد في وطنه أو في المنافي المجاورة والبعيدة..هو ذاته خطاب «المؤامرة» التي أصبحت حسب الأسد «حرباً بكل ما تعنيه الكلمة»..وهو ذاته خطاب «الأزمة المستوردة»، فلا أسباب داخلية جدية تذكر وراء الكارثة التي تتهدد سوريا والسوريين..أما المعارضة التي لا يؤتى على ذكرها في الخطاب الرئاسي، فهي انتقلت من كونها عصابات مسلحة إلى «إرهاب دولي منظم»، يقف النظام السوري في صدارة الحرب الكونية عليه.


أما الحل، فيتجلى فقط، فيما يمكن أن تفيض به الرئاسة السورية على شعبها..فـ»السيادة» لا تستقيم مع «الحلول المستوردة»..والحل يُصنع في سوريا، أو بالأحرى في «قصر الشعب»، وليس في أي مكان آخر..لكأن خبر «التنحي» لم يتناه إلى علم السيد الرئيس..بل أنه أحال إلى حكومته «القائمة» ملف الانتقال السياسي بسوريا، فلا حكومة انتقال في المدى المنظور، ولا الانتقال ممكناً قبل أن يعرف السيد الرئيس من أين ستنتقل سوريا وإلى أين ؟!.

من حيث الشكل، أحيط الخطاب بهالة كبيرة من «الأبّهة» المقصودة...قاعة ضخمة متعددة الطبقات..شاشة عملاقة تعرض علماّ سورياً كبيراً...هتافات منظمة صيغت بعناية لتمجيد الرئيس والجيش..أما الحضور فقد غلب عليه «العنصر الشبابي» الذي يُعتقد أنه اقتصر على منتسبي وحدات النخبة من الجيش والأجهزة الأمنية..وقد بدا ذلك واضحاَ في هتاف «شبيحة للأبد .. لأجل عيونك يا أسد»..وهو هتاف مخجل في المبنى والمعنى..مظهر أُريد به، إظهار «الروح المعنوية» العالية للرئيس بعد تواتر الأنباء عن «تردي هذه المعنويات وهيمنة القلق والحذر على سلوكه وتنقلاته وطعامه وشرابه»..كما يُراد بها استعادة بعض ما أريق من هيبة الدولة والرئاسة في سوريا.

ردود الفعل السورية والإقليمية والدولية، بدت متوقعة تماماً على الخطاب الخامس للرئيس، الذي امتاز بقصره هذه المرة (51 دقيقة فقط) وهو الذي اعتاد على تقديم «المطولات» في خطاباته السابقة.

العالم لم ير جديداً في الخطاب، بل نظر إلى جانبه «المراوغ» و»الفارغ» و»المنعدم الصلة» بما يجري في سوريا وحولها..لذا فليس متوقعاً أن يترك الخطاب، وما تضمنه من «مبادرة» للحل السياسي أي أثر يذكر في تبديل مواقف أو مواقع اللاعبين الأساسيين في الأزمة السورية.

أهم ما في خطاب الأسد، ما تضمنه من أفكار - وفقاً لوصفه - للخروج بسوريا من أزمتها الراهنة..وهي أفكار تصدر عن رجل يشعر أن لديه ما يكفي من الوقت لقيادة مراحل تنفيذها المتعاقبة، وبطاقمه الحكومي والأمني القائم، دونما حاجة للتبديل والتغيير..بدءاً بوقف تدفق المال والسلاح والمسلحين، إلى التزام هؤلاء بوقف اعتداءاتهم وإرهابهم، مروراً بالاتصالات والحوار والميثاق والدستور والقوانين والاستفتاءات الشعبية إلى المصالحة..ألم يتناهى إلى سمع السيد الرئيس أن المعارك الضارية والمكلفة، تدور في محيط قصره، وفي قلب عاصمة «ملكه السعيد»؟..من سيشتري هذه البضاعة بعد 60 ألف قتيل وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة؟.

رد الفعل الأهم الذي لم يصدر بعد، يبدو منتظراً بشدة من موسكو..موسكو التي خصّها الرئيس بالشكر والثناء إلى جانب بكين وطهران..لن تذهب بعيداً في تحليل خطاب الرئيس، فالأرجح أنها تعرف تمام المعرفة ما الذي سيقوله الأسد، قبل أن ينطق به..لكن الأهم، أن موسكو كما تؤكد المصادر المختلفة، باتت مقتنعة بأن الأسد أعجز من أن يوفر «البضاعة»، وأنه لا يمتلك «الترياق» الضروري لمعاجلة الجرح السوري العميق والنازف.

كنّا نأمل بخطاب مغاير..موجه إلى الشعب السوري لا إلى المجتمع الدولي المشغول بقضايا الحرب على الإرهاب..كنّا نأمل اعترافاً بالأخطاء والخطايا واستعداد لتحمل المسؤولية والمحاسبة..كنّا نتوقع اعترافاً بالمعارضات السورية، ودعوة صريحة لها للحوار والإسهام في بناء الدولة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أشلائها...كنّا نتوقع خطوات على الأرض، لا وعود محلقة في السماء..كنّا نتوقع إسهاماً شخصياً من الأسد، في الحديث عن مصيره ومستقبله ودوره الخاص، فهو الوحيد الذي لم يدل بدلوه في هذا النقاش، رغم أنه شخصياً في محوره وبؤرته.

خطاب مأزوم، سيسهم في إطالة أمد الأزمة وأكلافها، تماماً مثلما كانت عليه حال الخطابات الأربع السابقة التي أدلى بها الأسد، منذ اندلاع الأزمة السورية..خطاب يؤكد القناعة بأن مفاتيح الحل في سوريا لم تعد بيد السوريين، سلطة ومعارضة، بعد أن بلغ التدويل و»الأقلمة» حداً تقزمت معه، أدوار وأوزان مختلف اللاعبين المحليين، المنهمكين بتقاذف الشعارات السيادية والفوق قطرية والثورية المُطهرة.