المسيحيون الاردنيون ، اصالة عربية في بلد نموذج يحتذى في التعايش

بقلم: باسم صالح الخلايلة

ان التعددية الدينية التي يمتاز بها الاردن تعتبر اصبحت من أكثر شعارات العصر استحسانا، وأصبح الجميع يرددها ويتزين بها ، كونها تعد دليلا على الانفتاح والسماحة والتمدن التي يمتاز بها وطننا الغالي.

ومما لاشك فيه بان التعايش في الاردن ما بين المسلمين والمسيحيين قديم جدا ويعود الى ما قبل تأسيس امارة شرق الاردن بكثير ، حيث أن للديانة المسيحية تاريخ عريق وقديم في الأردن ، والتي واكبت القبائل العربية المسيحية حقبة الأنباط الذين أسسوا مدينة البتراء الوردية في جنوب الأردن ، وكان لهم دورا ملحوظا خلال العهدين الأيوبي والمملوكي .

يعتبر المسيحيين الأردنيين من أقدم المجتمعات المسيحية في العالم ، حيث أن غالبيتهم ينتمون للطائفة الارثدوكسية والتابعين للكنيسة الارثدوكسية في القدس والتي أسسها السيد المسيح عليه السلام . وينحدر الكثير من مسيحي الأردن من قبائل الغساسنة والقبائل العربية القديمة مثل قبيلة لخم اليمنية . وفي العام 630 حارب المسيحيين العرب إلى جانب المسلمين ضد الجيش البيزنطي ودعموا الفتوحات الإسلامية خاصة قبيلة العزيزات المسيحية خلال معركة مؤتة في منطقة الكرك، كما قاتل المسيحيين العرب إلى جانب المسلمين العرب في جيش الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك 1916. كما ساهم المسيحيين في بناء الأردن من خلال أدوارهم القيادية في كافة المجالات التعليمية والصحية والاقتصادية والسياحية والزراعية والثقافية.

يعتبر المسيحيين الاردنيين جزءا أساسيا من تاريخ هذه الأرض الطيبة والتي لا يمكنهم أن ينفصلوا عنها، وواقعهم ثابت فيها، وهذا يجعلهم غير طارئين لا على الأرض ولا على السكان ولا على الثقافة وعناصرها، وكونهم متواجدين ويتعايشون مع الاردنيين من غير المسيحيين فاننا يمكن لنا ان نلحظ تأثير العقيدة المسيحية على سلوكيات جيرانهم من المسلمين ، إلا أنهم لم يتخذوا من العقيدة المسيحية سبباً للاختلاف، حيث أنهم ومن منطلق تجذرهم في هذه الأرض، وارتباطهم بعروبتهم، فإنهم لم يعملوا على تشكيل ثقافة فرعية أو منعزلة أو مختلفة لهم ، بسبب تشاركهم مع الأغلبية المسلمة بثقافة توحدها الحياة المشتركة عبر العصور، وتقويها رابطة اللغة التي تعتبر وعاء الثقافة الأول.

فالمجتمع الأردني بكافة اطيافه قد انفتح على الديانة المسيحية وتعرف عليها، ويرفض التشدد الذي لم يعرفه اجدادهم ، ويرون بأن التعددية تشكل مركز قوة للمجتمع الأردني الذي يمثل نموذجاً للتعايش الإسلامي المسيحي.

لقد ولدت المسيحية في بلادنا ، والعرب المسيحيون في جنوب الأردن تعود أصولهم إلى جزيرة العرب التي هاجروا منها إلى بلاد الشام على موجات متتالية ، وتعود العشائر العربية المسيحية في جنوب الأردن في أصولها إلى القبائل اليمانية وعلى رأسها قبيلة "سليح"، وقبيلة "تنوخ" ، ثم الغساسنة ،وهم ينتسبون إلى قبائل الأزد، التي هاجرت من اليمن، وكان الغساسنة قد اعتنقوا الديانة المسيحية، واشترك ملوكهم في الخلافات الكنسية حول طبيعة السيد المسيح (عليه السلام). وكانوا من أتباع عقيدة الطبيعة الواحدة (المنوفيزيين). بعدما ضعفت مملكة الغساسنة، وقضي على أواخر ملوكها، انقسم عرب الشام إلى خمسة عشر قبيلة، متنازعة فيما بينها، يعمل بعضها في خدمة الروم البيزنطيين وبعضها الآخر لمصلحة الفرس. امتد نفوذ الغساسنة إلى مناطق جبل الشيخ، وحتى مناطق وادي عربة. وكانت أهم مراكزهم في الجولان وفي حوران وجلق (دمشق)، وبقي نفوذهم في مناطق البادية ولاسيما حول تدمر والرصافة. والجدير بالذكر أن هرقل بعدما تمكن من استرداد بلاد الشام من الفرس629م، حاول تنظيم إمارة الغساسنة. وفي كتب السيرة النبوية أن النبي محمد (ص) راسل ملك غسان، شرحبيل بن عمرو الغساني. انسجم الغساسنة العرب مع انتمائهم العربي ، ولذلك، لم يتخلفوا عن الركب عندما جاءت الجيوش العربية الإسلامية من الجزيرة فاتحة لبلاد الشام ومحررة لها من الاحتلال الروماني الذي خيم عليها لسبعة قرون.

فقد كانت العشائر العربية المسيحية تضيق ذرعا بسيطرة الرومان البيزنطيين ، وكانت تتوق بفطرتها العربية وبمشاعرها العروبية للتخلص من سيطرتهم ، وقد وجدت هذه المشاعر العروبية متنفسا لها عندما بدأت تتناهى إلى مسامع عشائر الأردن العربية المسيحية أخبار ظهور قوَّة جديدة في بلاد الحجاز، وذهب وفد من العرب المسيحيين في جنوب الأردن من الشوبك وأذرح والجربا والعقبة والبتراء بزعامة مطران العقبة يوحنـَّا بن رؤبة في عام 9 هـ ـ 630 م المسمَّى بعام الوفود إلى مدينة تبوك للقاءً الرسول العربي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

وأهدى المطران إلى الرسول الكريم بغلة بيضاء أعجب بها النبي الكريم ، وأهدى النبي الكريم زعيمَهم يوحنا بُردة ، وتمخضَّت مقابلة وفد عشائر مسيحيي جنوب الاردن عن عقد اتفاق لفتح أبواب هذه المدن أمام جيوش الفتح الاسلامي ، وهذا ما حدث فعلا ، وقد قام مطران العقبة على رأس وفد من عشائر جنوب الأردن المسيحية العربية بزيارة للرسول صلى الله عليه وسلم أثناء وجوده في تبوك ،وأوردت كتب السيرة النبوية نص كتاب الأمان والعهد الذي منحه النبي عليه السلام لوفد مسيحيي جنوب الأردن. تحت عنوان :"مصالحته عليه السلام ملك آيلة ـ العقبة وأهل جرباء وأذرح وهو مقيم على تبوك قبل رجوعه".

ولقد ازدهرت المسيحية في بلادنا في العهد البيزنطي في الفترة 330-638م ً، وفي15هـ/ عام 636م دخلت القدس تحت الحكم الإسلامي،وقد أعطى الخليفة الفاتح عمر بن الخطاب(رض) القدس وسكانها أماناً يعرف بالعهدة العمرية، بشهادة كبار الصحابة خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان ،رضي الله عنهم أجمعين. وبعد

الفتح ظل أهالي البلاد على أرضهم، واحتفظوا بدينهم في ظل الدولة الإسلامية على امتداد العصور.

وعرف عن القبائل العربية المسيحية في شرقي الأردن أنها كانت موالية للحكم الأموي،ولا تتحدث المصادر عن أي تميز أو اختلاف، "وكان المسيحيون العرب من المقربين للسلطة الأموية، وشاركوا في فتوحات الأمويين." وفي المجمل تمتعت الجماعات المسيحية بقسط وافر من الراحة في العصور الإسلامية، تخللها بعض المضايقات في بعض العهود . ويمكننا القول أن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين العرب تكون طبيعية وحميمية في ظل السيادة العربية، لكن عندما تسيدت المشهد العناصر المسلمة غير العربية، أو عندما شهدت المنطقة الغزو الخارجي الفرنجي والمغول، صار الخلط قائماً بين (المسيحي العربي) ابن الأرض و(المسيحي الغربي) القادم من بلاد الفرنجة. تواصل الحضور المؤثر للقبائل العربية المسيحية في بلادنا عبر العهود الإسلامية المتعاقبة وفي مطلع القرن السادس عشر وبداية الحكم العثماني .

وللمسيحيين العرب دورا ثقافياً وفكرياً واجتماعياً في الأردن عندما أخذوا على عاتقهم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مهمة الحفاظ على اللغة العربية كلغة قومية، وإبراز مميزاتها والاحتماء بها في ظل الوجود العثماني، من خلال تكوين الجمعيات الأدبية والفكرية، التي أخذت على نشر الثقافة العربية وإحياء الفكر و الأدب. إن هذه الحركة كانت دائمة الاتصال بأهالي شرقي الأردن ، وتحديداً أهالي شمال الأردن، حيث تم إنشاء إدارة جديدة لقضاء عجلون في قصبة اربد في سنة 1851م، حيث كان ارتباط أهالي السلط دائما بالقدس ونابلس في الوقت الذي انفتحت فيه الكرك على الخليل، وهذا يعني باختصار أن قراءة الدور الذي لعبه أهالي شرقي الأردن من المسيحيين في هذه المرحلة، يرتبط بمسيحيي بلاد الشام الذين تركوا أثراً على كل بلاد الشام، وكانوا مركز تنوير وتمكين للعروبة، والذين حافظوا على كنوز العربية وبعثوها واحتموا برابطة اللغة في وجه الحكم العثماني، جنباً إلى جنب مع الفعاليات الفكرية والثقافية من الأهالي المسلمين في بلاد الشام.

يعتبر المسيحيين الأردنيين اصلاء وليسوا طارئون على الاردن ، فهم جزء أصيل من بلادنا، ولهم اسهامات حضارية كبيرة فيها، وفي حضارتها، قبل الإسلام، وخلاله، وقد ساهموا مثل غيرهم من فئات المجتمع، ببناء الوطن، وإثرائه، وإغنائه.

يختلف الأردن عن الكثير من بلاد الدنيا، حيث إن الوضع العام في الأردن، يتصف بالتسامح، وتسوده المحبة والاحترام بين الجميع وعلى اختلاف الأديان ، وان كنا ندعو إلى مزيد من الحوار، واقصد هنا الحوار الجاد الذي يلتزم بأدب الحوار، وبمنهجية واضحة، تقرب أكثر مما تبعد. ففي الأردن يختلف الوضع تماما عن غيره من الدول التي تضم اقليات ، حيث ان مفهوم الأقلية لا ينطبق تماما على فئاتها المختلفة، فمن يدين بدين غير دين الأغلبية، تجمعه معها عوامل أخرى لها علاقة باللغة، والقومية، والأصل، وغيرها، ومن ينتمي إلى قومية أخرى، فهناك الدين، بل واللغة التي انصهر فيها، والتاريخ المشترك الذي يجعله جزءا أصيلا من المنطقة، لذلك فلو رسمنا في الأردن مثلا دائرة، ووضعنا فيها فئات المجتمع، فستمتلئ الدائرة بالألوان المتداخلة الدالة على العوامل المشتركة، الكثيرة، وهذا لا يدخل في باب المجاملة، بل هو عين الحقيقة.

المسيحيين الأردنيين ليس لهم وجود مستقل بوصفهم طائفة دينية، ولا هم ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم طائفة، ولا يتجسد حضورهم في كنيسة أو كنائس، بل في عشائر كغيرها من العشائر الأردنية.

فالمسيحية الأردنية تُقرأ "كنموذج لازدهار الثقافات الفرعية" داخل بيئة ثقافية إسلامية مفتوحة. وهي البيئة التي تجعل من زيارة قداسة الحبر الأعظم للأردن العام 2009 عيداً وطنياً لكل الأردنيين، ليس من أجل قداسته فقط، بل تعبيرا عن احترام للمسيحية الأردنية بوصفها جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي الوطني.

واستنادا الى التعددية الثقافية والدينية التي يمتاز بها الاردن فان المواطنة لا تتعارض مع اختلاف العقائد، بل تتكامل، فالمواطن الأردني الذي تجمعه أرض واحدة ومصالح مشتركة ولغة واحدة ودولة وأنظمة واحدة وتقاليد مشتركة، كلها عوامل تقارب وتكامل، والاختلاف العقائدي ليس عقبة لأن الجميع يتفقون على التوحيد، ولكنهم يختلفون في الجزئيات، ولا يمكن تغيير المعتقدات، وغير مطلوب منا أن نناقشها لتغييرها، بل لفهمها واحترام أصحابها، لأن الخالق عز وجل لو أراد لها أن تكون موحدة، لفعل، والوسيلة الوحيدة للتقريب هو الإقرار بالاختلاف والاحترام، مع التأكيد على عنصر الوحدانية، وعدم قبول منطق الصراع ورفضه بشدة. والمواطنة تجعل المسلم والمسيحي في الأردن في ظل مؤسسة عسكرية واحدة وجيش واحد ووطن واحد ومصالح مشتركة، وهذه هي الأرضية الصلبة التي نقف عليها جميعاً، في وطن واحد يحميه كل أبنائه، ويتشاركون في بناء استراتيجية واعية تقوم على أن مبدأ الاختلاف يمثل القوة ولا يمثل حالة من الشرخ والضعف والصراع. فالألوان المتعددة هي الظاهرة الصحية السليمة للعين، وهي حكمة ربانية تبعث على التأمل حقاً.

ومن هذا المنطلق فنحن لا نتحدث عن هوية خاصة بالمسيحي في الأردن، فهو مواطن يمارس عقائده الدينية في وطنه، وفي ظل دولة دينها الإسلام، وليس شرطاً أن تكون عقيدة كل المواطنين واحدة، لأن العقيدة لا ترتبط بوطن بل هي عالمية، في حين أن المواطنة ترتبط بالأرض وهي خاصة بأصحابها. ، وعليه فانه يلزم كل من ارتضى العيش على أرض هذه الدولة، الالتزام بنظامها ودستورها، لكنه لا يلزمه بعقيدة دينية موحدة، وهذا الفهم لا يخصنا نحن في الأردن، لكنه يلزم كل من يقيم على أرض هذه الدولة بثوابت الدستور.

فأبناء العشائر المسيحية العربية الاصيلة يكرهون أي إشارة تمسّ بعروبتهم الصافية أو بأردنيتهم الأصيلة، في سياق مشروع وطني لا مكان فيه إلا لهوية واحدة هي الهوية الأردنية العربية الممتدة في التاريخ والمتجذرة في الجغرافية من الغساسنة وورثتهم الأمويين حتى حلف البلقاء والدولة الأردنية الحديثة".

ينص الدستور الأردني في المادة الأولى على أن دين الدولة هو الاسلام فمن الطبيعي ان تتضمن المناهج التعليمية في المدارس والجامعات مواد حول تعاليم مبادئ الديانة الاسلامية بحيث يتمكن المواطن الاردني بغض النظر عن ديانته سواءا كان مسلما ام مسيحيا من التعرف و الاطلاع تعاليم هذا الدين ، وبالتالي فان المواطن الاردني المسيحي ومن منطلق مواطنته ،فانه سيتعرف على الثقافة إلاسلامية بصورة جيدة وتساعده في إيجاد نظرة تكاملية وثقافية متقاربة مع مجتمعه ومواطنيه من الأغلبية المسلمة، وهذا أمر يجعله أكثر وعياً وتفهماً واقتراباً من الثقافة التكاملية، فالمسيحيين الأردنيين يعرفون ثقافة المسلمين بالتفصيل، ويتعايشون معهم ومع طقوسهم الخاصة بالمناسبات العربية الإسلامية وخلال شهر رمضان والأعياد الدينية ، وبالمقابل فاننا كمسلمين اردنيين امام مشكلة حقيقية تحتاج الى دراسة تكمن في إن المسلم الأردني لا يعرف الكثير عن المواطنين المسيحيين او حتى عن الديانة المسيحية وهنا تحدث الفجوة ، الامر الذي يضع الجامعات امام مسؤولية حقيقية كونها لم تعمل على تعميق معرفة المواطن الأردني المسلم بالثقافة الدينية لمواطنه المسيحي، وهنا لا بد لنا ان نضع النقاط على الحروف لنؤكد أن الوعي بالدين السماوي الآخر (المسيحي) مسألة ضرورية للمعرفة ، وهي بالتأكيد معرفة تقرّب الناس وترسم استراتيجية التعامل في وطن واحد، وكون منفتح على تجربة إنسانية متكاملة، فالطالب الجامعي بحاجة إلى هذا الوعي، لأنه في مرحلة تمكنه من المقارنة والتفكير.

تختصر الأوساط الدينية المسيحية والإسلامية الأردنية التعبير عن الحضور المسيحي بخصوصية النموذج الذي يصدّر إلى العالم أجمع. والذي تعتبر فيه حريتهم الدينية وإقامة شعائرهم في الكنائس مصونة، تمارس بحرية تامة في أجواء أمن واستقرار، كما أن حقوقهم السياسية مكفولة في الدستور الأردني كمواطنين أردنيين. من خلال حالة تعايش وتآخٍ تربط المواطنين الأردنيين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين في عادات وتقاليد متشابهة.

وان مصطلح أقلية مسيحية يعتبر مرفوضا أو استهداف المسيحيين في الأردن أيضا مرفوضا، لأن الفتنة الطائفية كلمة محظورة رسمياً وشعبياً، ضمن وحدة وطنية مترسخة لا يمكن اختراقها منذ تأسيس إمارة شرق الأردن، ومستمرة في عهد المملكة الأردنية الهاشمية ورعاية العائلة الملكية الهاشمية لها.

فالمطلوب وطنياً تعزيز هذه القلعة والوقوف بحزم ضد كل المتطرفين إن كانوا مسلمين أو مسيحيين، وللذين يسيئون إلى الوحدة الوطنية بكل أطيافها، كما أن الواجب الوطني يحتم على كل المسيحيين التواصل مع الغرب وشرح وجهة النظر المسيحية العربية، والإشادة بالتعايش الإسلامي المسيحي في الأردن، والإشادة بالقيادة الهاشمية رمز هذا التعايش ورمز الوحدة الوطنية.

إن المسيحيين في الأردن جزء أساسي من تكوين المجتمع الأردني مثل المسلمين، بحكم عوامل أهمها التاريخ المشترك والتحديات والهموم المشتركة التي تجمع الشعب الأردني لمواجهة أخطار الدولة اليهودية التي تهددنا والمواطن الأردني المسيحي يتمتّع بكامل حريته لإقامة الشعائر الدينية والصلوات والاحتفالات خلال الأعياد الدينية، وإعلانها يوم عطلة رسمية لجميع الأردنيين خصوصاً أعياد الميلاد المجيدة. و المسيحيين في الأردن "ليسوا حدثاً طارئاً بل يعيشون مع أخوانهم المسلمين في هموم مشتركة وعادات وتقاليد مجتمع متشابهة تماماً في كل المناسبات الاجتماعية.

فمهد الديانة المسيحية وجذورها مترسخة في الأرض العربية، وأن الحالة الأردنية المسيحية نموذج رائد لا يمكن وصفه أو مقارنته بأي نموذج عربي آخر.

وبالرغم من المشاركة الكبيرة القائمة في الاردن بين أبناء المجتمع الواحد من مسيحيين ومسلمين، إلا ان هناك عوامل وافدة ودخيلة على مجتمعنا الاردني تحاول ان توجد بعض التشدد، وأحيانا يحدث بعض الشحن السلبي ضد الآخر وتخرج علينا بين الفينة والأخرى فتاوى متحيزة تحرم على المواطنين المسلمين الاحتفاء مع المواطنين المسيحين في مناسباتهم واعيادهم، وهي حالات شاذة مستحدثة لم يعرفها أجدادنا الذين عاشوا معاً في أريافنا ومدننا واختلطوا مع أهالي البوادي، وكانوا معاً في السراء والضراء ، ولم يميزوا عندها بين المواطن المسلم والمواطن المسيحي ، فهل يعقل أن تجمع الأهالي مشاركة واحدة قبل تأسيس الامارة ، وأن نسمح بممارسات تخرج عن تعاليم الأديان السماوية والمواطنة المشتركة في القرن الحادي والعشرين؟ أسأل فقط واستذكر هنا حكايات الأرياف في الأردن، التي تمثل المعايشة والمواطنة في زمن لم تكن لدينا فيه جامعات ومراكز بحثية وفضائيات وصحف وشبكة انترنت.

وهو الأمر الذي يحتم علينا أن نعمل على تجذير تواجد المسيحيين في بلادنا، وان لا نتركهم وحيدين بسبب بعض الدعوات الشاذة التي تخرج من هنا أو هناك، أو بسبب التهويل في المد الإسلامي، فيجب علينا أن نطمئنهم، لنعمل على أن يكونوا كما كانوا دائما جزءا أساسيا في المجتمع، وان لا نعطي الفرصة لبعض الجهات الخارجية لتقديم نفسها على إنها الحاضنة البديلة عن الحاضنة الوطنية أو القومية بالنسبة لهم.

وهذا يحتاج منا إلى الانتباه، ومنع من يقومون بالشحن السلبي ضد الآخرين، من خلال البحث عن العوامل المشتركة، وإسكات من يحاول أن يقوم بهذا الشحن، وعدم السماح له بان يقول ما يقوله على مسامعنا، وان نقطع الطريق على هذه الفئة الضالة الهدامة.

فقد لاحظنا الفتنة الطائفية التي برزت في عدد من الدول العربية المجاورة للأردن ، والتي ترجمها تزايد عمليات استهداف المسيحيين العرب على خلفية الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت أكثر من دولة عربية هذا العام ، والخوف الأكبر يكمن في إمكانية وصول هذه الفئة المتشددة التي تقود الحلمة الممنهجة ضد المسيحيين إلى السلطة ، مستغلين حملة الربيع العربي وبالتالي نشوء أنظمة حكم أكثر تشددا ، ولا يخفى على احد بان هذه الحملات سببها السياسة الاستعمارية التي ترمي إلى تقسيم وتفتيت الدول العربية، بهدف جرهم إلى معارك السياسة الدولية ، أو تسييس المسيحية في الغرب لأجندة قوى ومصالح ، أو على الأقل تحويلها إلى أداة للحرب على العرب والمسلمين واستقرارهم ، فالمسيحيون العرب الأردنيون هم الاحرص على مقاومة كل هذه المحاولات التي تجري في الغرب لصهينة المسيحية وتحويلها إلى جزء من اللوبي الصهيوني، والتي تخدم مصلحة إسرائيل الهادفة إلى إفراغ الدول العربية من المسيحيين للقضاء على التنوع فيها عبر إثارة الفتن وتسهيل تهجير بعضهم.

ولكن هذه الاستهداف الذي يعيشه المسيحي الأردني مختلف تماما كونه إيجابيا تماماً بحكم المحبة الاجتماعية والحماية التي يوفرها الأردن لرعاياه الأردنيين المسيحيين حكومة وملكا وشعبا.

ففي الأردن لا يوجد أي نوع من الاستهداف لمسيحيي الأردن، وإن اللحمة التاريخية بين المسيحيين والمسلمين في الأردن من الصعب جدا المساس بها خصوصا وأننا محصنون بحكمة القيادة الهاشمية والدستور الأردني الذي ينص على المساواة الكاملة بين المواطنين.

هذا التأكيد يؤكده اهتمام السلطة في البلاد بأن يأخذ المسيحيون دورهم الفاعل في الحكم وفي المجالات السياسية من البرلمان ومجلس الأعيان ومجلس الوزراء ، إضافة إلى الدوائر الرسمية كافة.

لقد استمرت العلاقة الرائعة بين أبناء الديانتين الإسلامية والمسيحية في الأردن الحديث انطلاقاً من مبادئ المسلمين في التعايش ، ومن تواضع المسيحيين بنفس المبدأ مما أدى للُحمة إنسانية وطنية تعزز وتوطد بين أبناء البلد الواحد ليكون مانعاً عزيزاً قوياً أمام أعدائه وهذا ما يريده الإسلام العزيز.

لقد أصبح التعايش الإسلامي المسيحي في الأردن أنموذجا يحتذى في العالم باعتراف كل الدول، حيث المحبة والتسامح الديني أساس هذا التعايش، والفضل في ذلك يعود إلى الأسرة الهاشمية الحاكمة أولاً والى طبيعة الشعب الأردني التي تتسلح بالوسطية والاعتدال واحترام الآخرين، فالمسيحيون في الأردن يعيشون في الأسرة الأردنية الكبيرة لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم الوطنية لا فرق بينهم وبين بقية أعضاء الأسرة من حيث العطاء وخدمة الوطن والمشاركة مع الآخرين في كل مناحي الحياة، سواء كان على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي ، فالمسلمون يشاركون إخوانهم المسيحيين أفراحهم وأتراحهم، وذلك بفضل الرعاية الهاشمية التي تظل كل الناس على اختلاف أديانهم وأجناسهم، فلا فرق عندهم بين عربي وعجمي إلا بالتقوى وعمل الخير والمشاركة في بناء الوطن والأمة.

وفي إطار احترام الفاتيكان للأردن لتميزه في التعايش ، فقد زار المملكة ثلاثة من باباوات الفاتيكان هم بولس السادس ويوحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر، والفاتيكان يعتبر الأردن نموذجاً في التعايش الإسلامي المسيحي، وينظر إلى الأردن قيادة وشعباً نظرة احترام وإعجاب.

إن المسيحية الأردنية "فسيفساء" شرق أوسطية بامتياز؛ فهي قادمة من مدن وقرى وبوادي الكرك وعجلون ومادبا والمفرق والسلط من ناحية، ومدن وأرياف فلسطين ولبنان وسورية من ناحية أخرى. وهذا التنوع يعكس الوجه الآخر لقوة الدولة حينما يندمج الناس في هوية وطنية تتجاوز الأديان والطوائف، وتعيد تعريف الذوات بدون أن تنفيها.

واخيرا أقول بان الأردن شكل حالة حضارية راقية في العيش المشترك بين أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية ؟ والسبب في ذلك يعود إلى تحقيق العدالة والمساواة بين أبناء الشعب العربي الأردني الواحد ، العدالة التي آمن بها الهاشميون ومارسوها منذ تأسيس الإمارة وحتى يومنا هذا بالقول والفعل ، فالحريات الدينية مصانة ويكفلها الدستور والقوانين وفي التطبيق ، حيث سعت القيادة الهاشمية منذ الملك عبدالله الأول ، للحرص على التعامل مع المسيحيين باعتبارهم مكونا رئيسيا في النسيج الاجتماعي الأردني،حقوقهم التمثيلية الرمزية السياسية حاضرة في التمثيل النيابي وفي الحكومات وفي كل الهيئات الوطنية التي تشكل الشأن العام .

ويحق لنا في الأردن أن نفاخر ونتباهى بمناخات التسامح الديني والعيش المشترك الذي ينعم به الأردنيون ، حتى أصبحنا مثالا يشار إليه بالبنان في المحافل الدينية والدولية ، وآخرها ما صدر عن الفاتيكان مؤخرا بعد اجتماع أساقفة الشرق الأوسط حين أشار البيان الصادر عنه إلى الأردن وسورية كبلد خال من الاضطهاد الديني وكمثال للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين .

شهادة نعتز بها ونحن نراقب ما يجري حولنا من ممارسات رسمية وشعبية وأعمال قتل وتدمير للمساجد والكنائس في مصر والعراق ولبنان ، حيث ينهش غول الطائفية البغيضة جسد الدولة والمجتمع ، بحيث أصبحت الطائفية محراك الشر والقتل والعصبية البغيضة ، وركنا أساسيا في السياسة وسلوك الجماعات والأفراد .

ونحن في الأردن نفخر بما تحقق في بلادنا من تحصين ضد الطائفية بإقامة العدل والمساواة ونبذ التطرف والتعصب الديني ، وهذا يملي علينا كدولة ومجتمع أن نظل يقظين لحماية وصون هذا المنجز ونبذ التطرف والتعصب الديني المقيت ، وان نسعى كدولة ومجتمع لحماية وصون هذا المنجز اﻟﺤﻀﺎري الإنساني من خلال التوحد في مواجهة كل قوى التطرف والمغالاة بغض النظر عن اسمها ومصدرها ، وان نحمي ساحتنا الدينية من الدخلاء والتميزيين ، وان نواصل الهجوم الثقافي محليا وعالميا . للدفاع عن الدين الإسلامي الحنيف مستندين إلى رسالة عمان التاريخية والى الإرث التاريخي والديني لقيادتنا الهاشمية التي مثلت ودافعت عن المفاهيم والقيم الحضارية للدين الإسلامي، وعملت على إدارة حوار عالمي بين الديانات.

هذه بعض الأفكار التي يمكن أن تثرى أكثر في هذا الشأن، بانتظار صياغة هوية وطنية تؤلف بين الجميع، في مختلف المدن والقرى الأردنية ، وان نعمل على صهرهم في بوتقه واحدة. وهوية جامعة تصهر الجميع في إطار له علاقة بتحقيق الأهداف العامة للوطن، استنادا إلى الرصيد الحضاري المشترك الكبير، وعوامل التجميع الأخرى، ومع تغيير بسيط في خطابنا، ستتغير طباعنا، ووقتها سنفرح للفسيفساء رائعة الجمال التي تشكل مجتمعنا الأردني مسلميه ومسيحييه.

وبفضل هذه الميزات الهاشمية السمة والممارسة غدا المسيحيين الأردنيين أثقل وزنًا من الناحية الاقتصادية والسياسية مقارنة بحجمهم السكاني، وأصبحوا يشعرون بثقة عالية بالنفس بقيادتهم الهاشمية فأصبحوا يديرون العديد من المدارس والمستشفيات، ولديهم نسبة متعلمين أعلى من النسبة السكانية، وينتمي غالبيهم إلى الطبقة الوسطى والعليا وبذلك فهم يعتبرون من الأقليات الناجحة وعلى الصعيد الاقتصادي ويديرون نحو ثلث اقتصاد الأردن.

آملا أن أكون قد وضحت بعض الغموض الذي يلف التعايش والوجود المسيحي الأردني وأجبت على بعض التساؤلات ؟ واختم بسؤال إلى متى سيبقى الغرب يحاول أن يفرق بين الإخوة المسيحيين والأردنيين ويسعى لتفريغ الشرق من قبائله الأصيلة تاريخيا ،فالمسيحيين الأردنيين هم عرب اقحاح والتاريخ يشهد بذلك ؟؟؟

والله ولي التوفيق

باسم صالح ضيف الله الخلايلة

basemolay@hotmail.com

0795255055/0777655055