أمير الظل .. مهندس على الطريق
منذ حطّ غراب الاحتلال على أرض فلسطين بقوته وجبروته وما تمتع به من دعم دولي، لم يتوقف الفلسطينيون عن المقاومة، وكان رجالها يراوحون بين الشهادة والأسر. وفي الأسر تتفاوت الأحكام بين من يسميهم الاحتلال "دم على الأيدي”، ممن يحصلون على أحكام بالسجن المؤبد تتكرر تبعا لما أوقعوه من قتلى في صفوف المحتلين (مؤبد واحد لكل قتيل)، فيما يخضع الجرحى لحسابات أخرى بعد ذلك.
قبل حوالي 8 سنوات، أصدرت محكمة صهيونية حكما لم يسبق له مثيل في تاريخ الاحتلال، إذ حكمت أحد المجاهدين بالسجن المؤبد 67 مرة، إضافة إلى (5200) عام بالتمام والكمال. وهو حكم من الطبيعي أن يستثير فضول أي إنسان للتعرف إلى الرجل الذي استحقه بحسب قوانين الاحتلال.
في كتابه "مهندس على الطريق .. أمير الظل” الصادر حديثا، يتيح لنا ذات البطل، صاحب الحكم التاريخي (عبد الله غالب البرغوثي) فرصة الاقتراب منه والتعرف إليه من خلال كتاب يشبه السيرة الذاتية، أو لعله ضرب من أنواعها.
في سيرة مثيرة وبسيطة وحميمية في آن (أخذت شكل رسالة مدججة بالعواطف لابنته الكبرى (تالا) ردا على رسالة لها تسأله عن السبب الذي دفعه إلى تركها في السيارة لحظة اعتقاله وعمرها 3 سنوات عام 2003). إنها سيرة تمنحنا فرصة التجول في رحلة طويلة مع بطل استثنائي بكل المعاني النضالية والإنسانية. بطل لو توفر مثله عند أية دولة تحترم أبطالها لأخرجت له أعظم الأفلام السينمائية، لأن البطولة هنا حقيقية تماما وليست وهمية. "والحق ما شهدت به الأعداء”.
ولد عبد الله البرغوثي لأسرة فلسطينية لها إرثها النضالي العريق من قرية بيت ريما (قضاء رام الله). هاجر رب الأسرة منذ الستينات إلى الكويت طلبا للرزق. تنتقل العائلة إلى عمّان إثر الغزو العراقي عام 90، وتعيش ضنكا وفقرا كان عليه أن يواجهه بصلابة رغم أنه لم يكمل الثانوية العامة بعد، فيما يمكن وصفه بأنه رجولة مبكرة، بل جد مبكرة فرضت عليه، أو لعله اختارها طائعا لمساعدة أهله. فتح عبد الله كراجا لميكانيك السيارات التي كانت هوايته المفضلة، إضافة إلى عشقه لممارسة الرياضة البدنية العنيفة (الجودو) التي بدأها في الكويت واستمر يمارسها بعد عودته إلى الأردن.
لم تفلح تجربته العملية في سد المبلغ الذي استدانه لفتح الكراج، فكان أن سافر إلى كوريا الجنوبية مع صديق ما لبث أن عاد من مطار عمان ولم يكمل الرحلة. هناك في كوريا بدأ حياة زاخرة بالتجربة امتدت لست سنوات شملت دراسة الهندسة الكهربائية إلى جانب العمل المهني والتجارة.
في تلك الرحلة، ولعلها التجربة الثرية أتقن البرغوثي لعبة الكمبيوتر والاتصالات وكل متعلقاتها على نحو يصعب شرحه هنا، لأن الكتاب يفصِّل فيه إلى درجة تمنح القارئ فرصة التعرف إلى عبقري لم يكن يعجزه شيء في مجال الكمبيوتر والاتصالات، وبعد ذلك التفخيخ وصناعة المتفجرات والتحكم بها عن بعد من خلال الهاتف النقال "الموبايل”.
من كوريا الجنوبية عاد إلى عمان ومعه زوجته الكورية التي اقترن بها هناك. عاد ليواصل رحلة التجارة، قبل أن ينفصل عن زوجته لرفضها زواجه الثاني بسبب أمله في إنجاب الأطفال (لم تنجب لأسباب صحية)، وبالطبع في ظل ضغوط اجتماعية طبيعية، فكان أن تركته وسافرت إلى بلدها معززة مكرمة، وهي قصة إنسانية تعكس شخصية البطل أيضا.
عاد البطل إلى فلسطين نهاية التسعينات، وهناك بدأت حكايته، حكاية البطل المهندس، مع المقاومة. حدث ذلك من يوم أن توسم فيه أحد الشيوخ كبار السن (لم يقل لنا من هو) معالم البطولة بسبب واقعة مثيرة تعكس رجولته وبطولته يرويها في الكتاب، فكان أن أعطاه حقيبة قال له إنها من إرث المهندس الشهيد يحيى عياش تركها عنده قبل رحيله إلى قطاع غزة حيث اغتيل هناك.
كأنما القدر كان يقود عبد الله البرغوثي إلى أن يصبح الخليفة الحقيقي ليحيى عياش، والبطل الأكثر تأثيرا في تاريخ المقاومة الفلسطينية، تحديدا تاريخ حركة حماس وكتائب القسام، ومعه كبار القساميين الذين رفض المحتلون شملهم في صفقة شاليط تبعا لمكانتهم وتأثيرهم الكبير وهم: (إبراهيم حامد، عباس السيد، حسن سلامة، أحمد المغربي، بلال البرغوثي، وائل عباسي، جمال أبو الهيجاء، معاذ حسن بلال وآخرون).
في هذا الشق من السيرة الذاتية، نعيش مع البرغوثي، وابن عمه بلال وآخرين كثر سيرة استثنائية مدججة بالبطولة والروعة. سيرة يحتاج شباب فلسطين إلى قراءتها والتعلم منها، فسير الأبطال تظل نبراسا يهدي الأجيال سبل البطولة والرشاد.
نتجنى على هذه السيرة لو أردنا تلخيصها بعد أن اختزلها صاحبها أيضا. نتجنى عليها، لأنها سيرة أبطال منحوا فلسطين أروع لحظات العز، وأجمل الانتصارات على العدو. أبطال رفعوا عاليا رأس شعبهم ورأس أمتهم. أبطال منهم من ارتقى شهيدا ومنهم من أسر ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
كتاب البرغوثي يستحق أن يقرأه كل شاب وفتى يريد أن يعيش مع الأبطال ويستلهم حياتهم وروعتهم وبطولتهم. إنها سيرة فلسطين في أروع تجلياتها. فلسطين في تمردها على الحصار، ومواجهتها لقدرات القتلة الهائلة. فلسطين إذ تتمرد بالإرادة والإيمان على عدو مدجج بأحدث الأسلحة والتكنولوجيا.
من الطلقة الأولى والتفجير الأول، وحتى لحظة الاعتقال وطفلته المريضة معه (بسبب عميل حقير لقي مصيره لاحقا)، يحملنا عبد الله البرغوثي إلى عوالم رائعة، ثم يأخذنا بعد ذلك إلى سيرة الصمود أمام السجان البشع وصولا إلى قهره، ومن ثم قهر عشر سنوات من السجن الانفرادي والخروج بعد ذلك بعد إضراب طويل عن الطعام.
سلام على عبد الله البرغوثي وأروع الأبطال من حوله في سجون الاحتلال. سلام عليهم إلى يوم الدين.
التاريخ : 01-01-2013