المتقاعدون ... الجند السابقون

غالب سالم عياصره


نثروا ساحات الصحاري بجنازير دباباتهم ، وقطعوا الفيافي والهضاب والتلال بحثا عن عدو محتمل ، ورصدوا وتسللوا عبر الاودية وزحفوا على الافق وفي عيونهم الوطن ، وقلبهم يردد الله اكبر هذه ساحات الوغى ،فاليوم نتدرب ونتعب لغد آت لا نعرف زمنه ولا مكانه ، لكنه آت .

ودوي طائرات تحوم خلال الغيوم ترعد وتبرق بضوء قنابلها ، الى اهداف وهمية نصبت على بعد اميال تُغير عليها بحركات حربية تلوح في الافق ، ثم تعود ادراجها تاركة في الارض البعيدة دخان .

وخلف التلال خيام نصبت ، وجنود نثروا عبر الصحراء الواسعة على السفوح والتلال ، نصبوا كل ما لديهم من اصناف الاسلحة ليقهروا عدوا محتملا ويحطموا اهدافا وهمية وضعت لهم على مسرح القتال وأقيمت طاولات رملية فرشت بالرمل فوق التراب وسجيت عليها معالم للأرض التي احتلها العدو .. جبال وتلال وسهول وأودية وكثبان وطرق وكل الاهداف والدلالات الرمزية تشير لاتجاه تقدم القوات التي ستتقدم .

مشاهد حرب يطول شرحها وتكثر تفاصيلها إلا انها تصب في حوض الوطن وحمايته والدفاع عنه وان تعددت الاساليب وتغيرت الوجوه اليانعة بالأمس حيث كان غبار الارض وشمها و لوشنها وماء نضارتها وعنوان شبابها وقوتها

يتقدمون منذ ساعات السحر بكل ارتالهم الى ساحة واسعة تقع خلف حاجز جبلي ، انتشروا على مساحتها بحالة اعادة تنظيم للقوات استعدادا للاندفاع والتقدم بسهولة ويسر قريبة من خط البدء انهم ينتظرون ساعة الصفر .. ساعة الانطلاق ساعة فتح النار والعمل ساعة التقدم والدخول في معركة حسب خطة مدروسة محسوبة بكل تفاصيلها ودقائق رماياتها انها لحظات قاسية تتطلب عمل مجموعات كثيرة تحتاج الى توحد الناس والأسلحة تحت سيطرة عقل و لسان واحد فتنصهر كل اصابع المجموعات لتصبح اصبعا واحد يضعط الزناد .

.... يديرون الاجهزة لتسمع بعضها بعضا وتنقل نبض قلب قائد المعركة وصوته وأوامره قبل وأثناء وبعد لحظة الانطلاق ، كلمة سرية تم الاتفاق عليها لتبدأ المعركة .. " خالد " صاحت المدافع من اماكنها معبرة عن حركتها وحريتها ..اطلقت احشائها للخارج فتحولت كتل نار تتفجر عبر تلال بعيدة لعلع صوت الرشاشات طلقات مدوية .. خرجت اليات ودبابات من خلف التلال تندفع بقوة نحو هدف ترمي تارة وتختبئ تارة وتراوغ مرة اخرى يتبع حركتها حركة مشاة جنود يخطون خلفها يسددون رصاصات تجاه العدو مصادر نيران ترد ودخان يملأ المكان وقنابل ترمى بمختلف انواعها وألوانها وتستمر المعركة بين مترجل خلف الية ومحمول فوق دبابة وطائرات تغير تلقي صواريخها من بعيد فوق تلال وتمضي الى مخابئها ليعود غيرها من جديد ..

صوت القائد عبر الاجهزة يتردد مشوشا في كثير من الاحيان تحت غابات من دخان ، لكنه يعلن بعد ساعات من التقدم والمجابهة ، ان "الهجوم انتهى وعليكم التوقف" ، ثم يُتبع اوامره" تفقدوا خسائركم " وما نتج عن المعركة التي خاضها بعد شهور من التدريب والإعداد .. بضع دقائق تتوالى نداءات الى قيادته ، تعلن عن خسائر وإصابات و .. و .. الخ ، ثم يطلع بنداء اخير " المهمة انتهت ..الحمد لله " ......

تلتئم القوة وتتجمع معلنة الرحيل ..تودع الميادين ، تاركة متابعة حماية الوطن والانجاز الى دماء جند جديدة ، ما زالت في اول حياتها العسكرية تدربت وشاركت كل مراحل القتال ، على يد الرعيل الاول ممن سبقهم بالجندية قبل ان تحل ساعة رحيلهم ، ليغادروا المكان والزمان ، تقاعدوا وساح الوغى مشرعة ابوابها تنتظر الغد الآت ، صمتت نداءاتهم لغتهم التي اعتادوا ان يفهموها ، وتوقفت اصابعهم عن الضغط على الزناد ، لكن عهدهم بان يبقى انتمائهم لحب الوطن وولائهم لقيادته عقيدة ومعنوية وروحا لم ترحل بعد ، وان اطلق عليهم متقاعدون .

هكذا الجند السابقين بالأمس ، كانت وما زالت عقيدتهم تتغذى من رحاب حب الوطن ، شذى يفوح من نرجس ورياحين شبابه الذود عن حِماه ، تربوا في فيافي الوطن الواسعة النقية الصافية ، فَمُسح غِلّ الحياة من قلوبهم ، وبدلوا شرر المصائب بأحسن عمل .

اسودا كانوا في عرينهم ، آثروا على انفسهم وعادوا الى بيوتهم يشقون طريق الحياة بالعمل والأمل ؛ ليفسحوا مجالا للشباب فلذة اكبادهم ، لينهجوا نفس طريق المجد ويستعدوا لمعركة قادمة زمنها ومكانها غير معروف ، نستعد .. ننهي عمرنا واقفين ، ننتظر ساعة تلو ساعة نموت او نتقاعد ، او يلفنا المرض ، لا ندري . لكننا ندرك ان حب الوطن املنا وعملنا ، حيث حللنا وانتقلنا فكلها ميادين شرف . فساعة معركة الوطن لم تحن أوهي لم تأت ، فالحذر واجب ،والدفاع عن الوطن ،والعرض والأهل ، فرض وحق ،تربينا عليه ولا بد ان نستمر ، الى ان يقضي الله امر كان مفعولا .

المتقاعدون الجند السابقون ، هم الرجال الذين حطت ارجلهم على الارض ، وارتوى من عَرقِهم تُرابها ، يسيرون بقوةٍ وعزمٍ نحو المجد ، تحت اسم واحد رغم تنوع صنوف اسلحتهم ، انهم متفائلون لا متقاعدون ، يحملون وسام فخر وعز وسؤدد ، فهم اوفوا بعهدهم ، لينام غيرهم قرير العين ،ليكبر الصغير .. ويشب شباب الوطن كرماء هاماتهم مرفوعة ، فلا ينسى للجند السابقين صنيعهم ، فالوفاء للمتقاعدين العسكريين تكريم وعطاء هاشمي ، نيشان ورمز فخر يحلي صدر كل متفائل متقاعد من فتية الامس وشيوخ اليوم وبصيرة الغد ، وأملُ الاجيال وشعلتها .

فحيثما كنت ايها المتقاعد أنت ولا ارى إلا انت جنديا عاملا في رحاب الوطن كنت مهندسا او طبيبا ، فأنت جندي سابق تأبى الموت قاعدا ، فما زلت شعلة تُطفئ بالموت ، دفاعا عن الوطن وكرامة الانسان .