وأخيرا.. الاعتماد على الذات
يسجل لوزير المالية سليمان الحافظ قدرته على رسم مسار أكثر أمنا واستقرارا، ويعبر عن مطلب إصلاحي لا بد من الدخول إليه.وإحدى أدوات الاستقرار التي يستخدمها الحافظ ببراعة، هي سياسة الاعتماد على الذات التي بُحّت أصوات الحريصين على سلامة الخزينة وهم يطالبون بالسير بها قدما، لكن الحكومات المتعاقبة ظلت تراهن على منح ومساعدات تصل تارة وتغيب في أخرى.تقول الحكومة الحالية إن نسبة الاعتماد الوطني على الذات -أي نسبة اعتماد الدولة على إيراداتها- سترتفع إلى 84 % العام المقبل. وهذا بالفعل يجعل المرء أكثر طمأنينة وهو ينظر إلى السياسة المالية، ومدخولات الخزينة ومخرجاتها، من زاوية القدرة المحلية على مواجهة تحديات النفقات والمصروفات. ففي الهامش بين الإيراد والإنفاق، ارتكبت حكومات عديدة أخطاء كثيرة، وانتهى المشهد إلى مديونية متدحرجة، وعجز في الموازنة، وسؤال مستمر عن جهة الإقراض المستهدفة للشهر التالي.ونسبة الارتفاع البالغة 10 % في تغطية الإيرادات المحلية للنفقات الجارية، تدعونا إلى التفاؤل، وتؤسس لسياسة مالية ذكية وحكيمة. كما أن اعتماد التخطيط المالي للعام المقبل على احتساب الإيرادات قبل المنح وليس بعدها، يضع السياسة الاقتصادية في مسار حقيقي لا افتراضي. ومن ثم، يتوجب على الحكومة الالتزام بما لديها من قدرات مالية وإيرادات، فلا تتوسع في نفقات لا تجدي نفعا ولا تنتج نموا مستهدفا. ويوازي السياسة الحصيفة التي لجأت إليها المالية العامة بعد جهد طويل، التزام بعدم الإنفاق خارج الموازنة، وإبقاء المنح الخليجية ضمن الإنفاق الرأسمالي على المشروعات المتفق عليها مع الدول الخليجية خلال السنوات الخمس المقبلة. لكن، ومع أنه صحيح أن إجراءات الحكومة وقرارتها الأخيرة تسببت في خفض عجز الموازنة، إلا أن عبء هذا العجز ما يزال ثقيلا، ويفوق مليارا وستمئة وخمسين مليون دينارا. والمطلوب من السياسات المالية المقبلة مواصلة ضبط الإنفاق العام، وتقليص حجم الجهاز البيروقراطي المتضخم في مؤسسات عديدة وبما لا يعود بالنفع على الاقتصاد، وأن تحسن من مستوى الإيرادات. وبهذا وحده يمكن للخزينة أن تكون بخير. ومن ثم، فإن الصدقية تقتضي رفع القبعة لكل من يعزز قدرة الدولة على الاعتماد على مواردها الذاتية بعيدا عن بحث مزمن عن ديون لا تنتهي.المسار مطمئن من خلال إيجاد حلول عملية مصرية وعراقية لأزمة الطاقة التي استعصت في عامنا الذي اقترب من نهايته. فالعرض العراقي، وقبله المباحثات المثمرة بين المسؤولين الأردنيين والمصريين وبرنامج تزويد الأردن بالغاز المصري، والمرتقب توقيعه قريبا بين الجانبين، إضافة إلى دفعات من صندوق النقد الدولي ستصل تباعا وفقا لتوقعات قريبة من الواقع وذات صلة بالتطورات التي تشهدها الموازنة العامة؛ كل ما سبق يدفع المرء إلى الثقة أكثر بالخزينة والخطط المالية التي تقف خلفها.أثبتت أشهر الربيع العربي وما بعدها أن قيمة التحالفات السياسية ليست عالية أو ذات شأن، وأن التقلبات المتواصلة والمفاجئة أحيانا، كفيلة بأن تغير الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق. وقد ذاق الأردن مرارة العديد من تقلبات المواقف الإقليمية تجاهه، وتسبب ذلك في عسر مالي وحاجة إلى مساعدات لم تسعفنا كثيرا في واقعنا الاقتصادي المتأزم. ولذلك، فإن ما ذهب إليه وزير المالية بشأن الاعتماد على الذات، يعد طوق نجاة لمن ما يزال يبحث عن القشة.