متى كان الكذب محرما؟

لقد اكتشف واحسست انه من السهل ان تبكي، وان تسمح لنفسك بالتعبير عن حزنها والمها وبأن تطلق العنان لدموعك لتنهمر علّها تخفف من آلامك واحزانك، ولكن ما هو صعب ومؤلم جدا هو ان تتمكن من منع دموعك من التحرر على الرغم من الالم والحزن الشديدين الذي تمر وتعاني منه لابل وان تصطنع الابتسامة، وتضطر للكذب فربما هذه الابتسامة وبعضا من ذلك الكذب يخفف من آلام من تحب.
لقد كانت تعاني مرضا نادرا مؤلما قاسيا، ومهما وصفته فانه مؤلم اكثر من اي وصف، لقد كانت اعضاؤها تتلف ببطء شديد، وتتصلب محدثة الما شديدا بالاضافة الى تعطل وظائفها، فقد كانت لاتستطيع ان ترتشف رشفة ماء، وكنا نضطر لسقيها اياها بملعقة الاطفال قطرة قطرة، وكذلك كنا نطعمها الوجبات بعد طحنها بما لايتجاوز ما يعتبر تذوقا وليس وجبة.
كنا نعلم ان مرضها قاتل ولاعلاج له، وقد بذلنا كل ما في وسعنا من عرضها على كافة الاطباء واستيراد الادوية الخاصة لها، والدعاء لها ليلا نهارا، ولكننا كنا نكذب عليها ونخبرها انها لو كابرت على نفسها وعلى المها وتمكنت من تناول ملعقة واحدة من هذا الطعام فان ذلك سيكفل لها التحسن الصحي المطلوب، او اذا تمكنت من تناول هذا الدواء دون ان يرفضه جسمها فان ذلك سيضمن لها تحسنا اسرع، ونحن نعلم في قرارة نفسنا ان كل هذا كذب ولااساس له من الصحة، ولااعلم هل هذا الكذب كان حراما، وهل كنا نرتكب اثما بممارسة مثل هذا الكذب؟
لقد كانت والدتي، هذه الام الحنون التي مازالت صغيرة بالسن، ولكن المرض لايعلم صغيرا ولا كبيرا، هذا المرض الذي هاجمها بعد ايام فقط من وفاة والدي، من شدة حزنها عليه واخلاصها لعشرتهما ووفائها له وكيف لا فقد تشاركا هذه الحياة بحلوها ومرها نصف قرن بالتمام والكمال، بعد ان تزوجته وهي طفلة لاتتجاوز الثالثة عشر من عمرها، فقد كان الاب والاخ والزوج لها، فلم يحتمل جسمها الضعيف صدمة فراقه، فتمكن المرض من النيل منها، ومهاجتمها، وجعل جسمها يتآكل امامنا شيئا فشيئا، حتى اصبحت وفي غضون بضعة اشهر فقط هيكلا عظميا مغطى بطبقة صلبة من الجلد، الى ان فارقت الحياة امامي، وقد حاول الاطباء انعاشها وكان قلبها يعود للخفقان ولكن رئتاها ترفض ان تتنفس، ترفض ان تستنشق اي ذرة هواء من هذه الدنيا لتعلقها برفيق دربها، فقد رأته الان وهي تسعى للحاق به، لان تجتمع به بالحياة الاخرة، الى ان استسلم قلبها عن الخفقان، وكذلك خارت قوى الاطباء المسعفين لها، واخيرا اعلنوا وفاتها وانتقال روحها الى بارئها الاعلى، لم اصدق ما ارى بعيني ولاما اسمع من الاطباء، ولكن لم استطع سوى ان ابقى اردد "انا لله وانا اليه راجعون، انا لله وانا اليه راجعون" وعندها انطلقت دموعي التي كنت اكبتها واحبسها وامنعها من التحرر لبضعة اشهر، انطلقت لتغسل وجهي، وكنت ومازلت كلما تذكرت تلك الايام المؤلمة ابكي كالطفل الصغير ومازلت اشعر بألم شديد بصدري لم تغسله الدموع كما لم يغسله سابقا بعضا من الكذب على الرغم من مرور عدة سنوات.
تلك كانت والدتي التي لااعز بالعالم احدا اكثر منها، ومازلت افتقدها وأتألم لفقدانها، ولقد قابلنا احسانها وعطفها وحنانها علينا بطفولتنا وكبرنا ايضا، قابلنا ذلك بكذبنا، فهل كنا نرتكب اثما بذلك؟
رائد شيكاخوا
كاتب ومحلل مالي