بائع عنب ووالدي الطيب

قصة بائع العنب مع والدي الطيب
قصة أرويها في هذا المقال عن حكاية من حكايات أصالة شيوخنا وكبارنا لا تعدلها أصالها وفراسة في فكرهم لا تعدلها فراسة أمهات الكتب، فراسة ونباهة وبديهة بدأت وللأسف تغيب عن مجتمعنا في هذه الأيام التي طغى عليها لهاثنا وراء لقمة العيش ، كما طغى عليها أيضا سوء النية فيما بيننا ،وبدأت حتى الثقة في أخلاقنا بدأت بالتلاشي شيئا فشيئا.
في ثمانيات القرن المنصرم كنت شايا يافعا في عمر الزهور بينما كان والدي الطيب يبلغ من العمر ما ينوف على الستين عاما - أطال الله في عمره- لكنه كان مكتنز الفكر عظيم البديهة حاضر الذهن على الدوام يحمل على عاتقه هم الناس كأنه همه ويهب إلى نجدة المضطر وواغاثة ذي الحاجة ككل الخيريين في وطني الكبير.
في مساء يوم صيفي جميل وبينما كنت أشاهد التلفاز أو بالأحرى احتكر مشاهدته وحدي كوني الأخ الأكبر في عائلتنا وبينما كان والدي يعد العدة لأداء صلاة العشاء وإذا بصوت بائع عنب يصيح في حيينا مناديا (عنب،عنب يا الله يا عنب)
وسط استهجاني من تواجد مثل هذا البائع في مثل هذه الساعة من الليل خصوصا وأنه لم تكن الشوارع في تلك الأيام منارة
ولأنني غير متعود على سماع صوت بائعين في الليل في تلك الفترة ما كان مني إلا أن قلت في نفسي ما لهذا البائع المجنون وكيف له أن يبيع العنب ليلا وبعد ثوان معدودة وإذا بصوت والدي الجهوري ينادي علي فهببت إليه قائلا :لبيك والدي.فقال :اذهب واتني ببائع العنب بسرعة قبل أن يبتعد. انطلقت مسرعا باتجاه بائع العنب تلبية لرغبة والدي بعد أن اعترتني الغبطة والسعادة لأنني أدركت بأن والدي قرر أن يبتاع لنا العنب.

أدركت البائع، كان رجلا كبير بعمر والدي تقريبا فأخبرته برغبة والدي شراء العنب منه فما توانى عن إدارة حماره بالاتجاه الذي أتيت منه ومشينا حتى وصلنا إلى بوابة المنزل فقال له والدي: تفضل ،أهلا وسهلا، فوت جاي فقال الرجل :وبالمهلي . وأعطاني رشمة الحمار بعد ان أمرني والدي بربط الحمار في الحاكورة الجانبية للمنزل وإذ بالبائع ورائي حيث قام بنزع الخرج الذي في العنب ليستريح الحمار وقام بإدخال الخرج دار المنزل ووالدي كان لا يتوقف عن بث كلمات الترحيب.
قلت في نفسي:لا بد أنهما يعرفان بعضهما البعض وقدمت لهم الشاي والعشاء وبعدها عدت إلى مكاني لأشاهد التلفاز بعد أن وجدت احد إخوتي قد قام بتغيير المحطة فاستخدمت سلطتي البسيطة في إعادة اختيار محطتي المفضلة .
في الصباح صحوت ولم أجد البائع ولكنني وجد بعض العنب لدى والدتي حيث أخبرتني بأن البائع تناول افطاره وغادر المنزل ما يعني أن البائع قد أمضى الليلة عند والدي ولم يغادر فتوجهت إلى والدي بالسؤال :ابي هل عرفت البائع من صوته أنه صديقك ليلة أمس ؟ فقال :لا. فأردفت في سؤالي: وكيف أمضى الرجل الليلة عندك أمس وأنت لا تعرفه؟
فقال يا بني:القصة لا تحتاج الى ذكاء رجل يبيع العنب في ساعة متأخرة من الليل حيث لا زبائن ولا إنارة ما معنى هذا الكلام؟ فأجبته:إذا فهو رجل تقطعت به السبل وأدركه الليل .فقال والدي:أحسنت يا بني لذلك أرسلتك إليه كي تدعوه إلى المبيت لدينا لحين بزوغ خيوط شمس اليوم ليواصل الرجل رحلة طلب رزقه من جديد. ذهب الرجل تاركا ورائه بعض العنب عرفانا بالجميل ومخلفا في ذاكرتي لغة التخاطب بين أجيال الكهولة أطال الله في أعمارهم جميعا.