مجاعة 1996
كنّا "شلّة" يساريين، تقاعدنا قبل أن نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وسلّمنا السيد ماركس وهوشه منّه إلى أول سيارة نجدة صادفتنا قرب مستشفى الجامعة الأردنية. سلّمناهما بوجبة "رخيصة": برغر وبطاطا.في الجيب سيجارتان، وثلاث وريقات وقلم مهترئ من جانبه العلوي.. وفي البال أغنيات كثيرة لم نتمكن من جمع أيّ منها.كنت عائدا إلى عمان بعد هجرة أولى فاشلة، حمّلتُها أكثر مما تحتمل من الأمنيات. وكان لـ"الرفاق" حكايات فشل مماثلة، نلوكها في سهرات "رخيصة"، من غير أن نحمّل أحدا جريرة ما فعلناه بأيدينا.ظننا الحياة أضيق من الأفق، وأوسع من أمنيات لا تخطر إلا على بالنا."رفاق" كثيرون، ضاقت بهم سبل ما كان ينبغي لها أن تضيق. و"زمّلتهم" شوارع فارغة إلا من الجوع، بعد أن غابت المرضعات والجواري.نلوك الهباء والفراغ، ونمعن في طموحات لا تمتلك أجنحة ولا سندا. غير أننا لا نملّ من الحلم، حتى لو كان على أمعاء خاوية إلا من الألم.وفي البال أغنيات كثيرة، طال فيها المقام ولم تجد منشدين. كانت مثل غربان تحوم من علٍ على فريسة محتملة.. أو ربما، جيفة سانحة. المهم أنه كان هناك ما يُطمَحُ إليه.يصرّ مالك عثامنة على أن أخبار الجرائم هي الأهم، ومع ذلك فهو لا يتوقف عن كتابة نصوص تنبذ العنف والجريمة، ويستلهم تي.أس. إليوت، وأحمد فؤاد نجم مع توأمه الشيخ إمام كلّما عنّ على باله أن يكون أكثر قربا إلى نفسه.من وقتها، كذّبت جميع "التجليات الذاتية"، ووجدتني أكثر قربا إلى محاولة استلهام ما لا تقوله العبارات المباشرة.قال ذات مرّة: "البدائية ليست أن تتصرّف كبدائي، بل أن تفكّر كبدائي".تلك كانت مجرد مقولة عابرة في زمن جوع عابر، غير أنه استلهمها بكلّ ما فيها من معنى غامض وظاهر، لنجده دائما ينحاز إلى الإنسانية المطلقة كلّما كان الخيار متاحا.ألم أقل إنها كانت مجرد مقولة عابرة!كنّا نمارس التمثيل على الجميع، فنحن: مثقفون، ثوريون، طليعيون، تقدميون، وليبراليون بالضرورة، وكم حمدنا الله أن أحدا لم يطلب منّا تعريفا لأي صفة سابقة، فثقافة القطيع تستوجب أن تحني رأسك احتراما لمن أمامك، حتى لو لم تفهم كلمة واحدة مما قيل.استفدنا بما فيه الكفاية من مفهوم ثقافة القطيع، و"لعبنا" على "المنطقة الرخوة" من الثقافة السائدة والمفاهيم والعادات المتوارثة والنقد السطحي للقيم.. فانتصرنا في معركة قصيرة الأمد. انتصرنا لأن من يقابلنا كانوا ضعيفي حيلة وسند.. هكذا انتصرنا.. وظهرنا على من سوانا.تلك كانت مجاعة العام 1996، حينما عجزنا عن تأمين لقمة عيش قليلة لحياتنا البائسة. عجزنا عن أن نشبع لليلة واحدة، فأعملنا فكرنا الشقيّ في تمثّل ثقافات لا تمتّ لنا بصلة.غير أننا وجدنا لنا مريدين. تلك كانت بداية الكفر بكلّ شيء. تلك كانت بداية "التفكير الإيجابي" النفعي، حين تشعر أنك ذكيّ. ذكيّ بما فيه الكفاية ليصدق الآخرون تمثيلك.تلك حكاية ملخصة عن مجاعة1996.m.malkawi@alghad.jo