مع عبدالباري عطوان في عمان!

أحباب الأستاذ الكبير عبد الباري عطوان في عمان كثيرون جدا؛ فهو ما أن يحل في هذا البلد الطيب حتى يتقاطر عليه أصدقاؤه، ويتنافسون في لقائه وإطعامه ما يشتهي من أكلات عربية يعز وجودها في عاصمة الضباب الباردة، ومثلما يقبل الأستاذ على الاستمتاع بهذه الأكلات الشهية، يقبل محبوه على التهام ما يجود به ذهنه المتقد من آراء وتحليلات ورؤى، نادرا ما لا تصيب الهدف!

يوم الثلاثاء الماضي، وفور وصوله إلى عمان، التقيناه في بيت أحد الأصدقاء، كوكبة من الأحباب، على قدرة خليلية ودقة غزاوية، وبقدر حرارة ودفء هاتين الأكلتين المميزتين، كان الحديث في غاية الإمتاع والأهمية، حيث حلق الرجل الذي يزداد ذهنه اتقادا والتزاما بعروبته ونقائه، كلما تقدم به العمر.

أكثر ما لفت نظري في حديث الرجل، وهو ما يغيب عن أذهاننا عادة، الذاكرة التاريخية التي تحكم علاقات الدول بعضها ببعض، وفي هذا حديث طويل، فالدول كالأشخاص، لا تنسى الإساءات التاريخية المفصلية، فمثلا لا يمكن أن تكون علاقة استراتيجية بين تركيا والسعودية، بسبب دور الأخيرة في إنهاء الحكم العثماني لبلادنا، وقل مثل هذا عن علاقة تركيا بالأردن، ومصر بالسعودية، صحيح يمكن أن يكون ثمة علاقة ما بين هذه الدول، لكنها لا يمكن أن تكون حلفا استراتيجيا، وفي هذا تحدث عطوان عن أهمية دراسة التاريخ في بريطانيا تحديدا، حيث يحظى من يدرسه بمكانة هي الأسمى والأهم من بين العلوم التي تدرسها الجامعات، فهو أهم التخصصات، على العكس من نظرة بلادنا العربية لهذا التخصص، فدارس التاريخ مهمل وبالكاد يحصل على وظيفة معلم صبيان، أما دارسو التاريخ في بلاد الإنجليز، فيحظون بالوظائف الخطيرة، وسرعان ما يلتحقون بسلك صناع القرار من الساسة والدبلوماسيين!

مسألة أخرى «نكشت» مخي كثيرا، ما ذكره الأستاذ عن رؤية الغرب لثورات الربيع العربي، الذي يقال أنها ثورات مصنوعة في الغرب، حيث استذكر تصريحا لطوني بلير يلخص هذه الرؤية بشكل مكثف، حينما تُحدث التغيير الجاري في البلاد العربية، وضرورة وضعه تحت السيطرة، وربما استثماره، باعتبار أن التغيير أصبح واقعا، بإرادة الشعوب، ولكن للحفاظ على مصالح الغرب، لا بد أن يكون مسيطرا عليه، كي لا تفلت الأمور من أيدي المتحكمين بمصير العالم، أو من يحاولون القيام بهذا الدور، وطبعا هذا لا يعني أنهم ينجحون دائما فيما يخططون له!

أما موقف الرجل مما يجري في مصر الآن، فقد لقي هوى كبيرا في نفسي، فرغم تأكيد الأستاذ عبد الباري المرة تلو الأخرى أنه ليس إخوانيا ولن يكون، إلا أنه انتقد بشدة موقف المعارضة، خاصة البرادعي وعمرو موسى، من مرسي، وإعاقته عن العمل، وامتدح مرسي الذي قال إنه التقاه في اسطنبول، وقال عنه إنه رجل طيب، ويتحدث لغة تشبه «لغتنا» وفيه نقاء وصفاء بلا حدود، وقال: إن مصر اليوم أمام خطر داهم، وكشف أن ثمة موقفين للولايات المتحدة، الأول معلن بتأييد ما جاءت به صناديق الاقتراع، إذ لا يمكن أن تقف علانية ضد نتائج انتخابات حرة ونزيهة، والثاني غير معلن، يتمثل في عدم ارتياحها لحكم الإخوان، عبر إعطاء الضوء الأخضر لبعض حلفائها العرب لتخريب التجربة بكل السبل، سواء عبر المال أم غيره من أساليب!

الحديث مع عبد الباري عطوان ممتع وطويل، ويحتاج لصفحات كثيرة لعرضه، ولكنني حاولت أن أشير لبعض ما استوقفني، وهو كثير جدا، خاصة أن لدى الأستاذ رؤية خطيرة ومخيفة لما يحمله العام القادم على منطقتنا العربية، حيث تنتظرنا –كما يبدو- حرب طاحنة، لإغلاق الملف النووي الإيراني، أو هكذا يخطط الغرب على الأقل!