الإخوانُ المسلمون ( المِصْريون هناك والمُصرّون هنا) !

سعيد النواصره


الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ وبعد :

فإنّ الأحداث الجارية في مصر - الآن - جعلت الإخوان المسلمين يدركون جيداً معنى لجوء المعارضة إلى ( لغة الشارع ) في التعبير عن الرأي و الانتقاد ، و رفض قرارات الدولة ، أو حتى المطالبة بالإصلاحات ، ومحاربة الفساد .

فسياسة الأحزاب المعارضة لحكم الإخوان في مصر ، وانتهاجها الإضرابات والمظاهرات كوسيلة للاحتجاج ؛ وضعت البلاد والعباد أمام أزمة قد تنقلب – لا قدّر الله - إلى فتنة عمياء لا تبقي ولا تذر ، ولا يجدي معها نظر أو حذر .

ومع ما تنتجه صناعة ( الربيع العربي ! ) من السلع الرائجة التي راقت للكثيرين في مظاهراتهم كالشعارات المستنسخة طبق الأصل ، وترجمتها على الواقع سواء بالحشد الجماهيري أو بقوة السلاح ؛ يفقد نظام الحكم اللاحق فيما بعد قدراً من هيبته غير يسير ؛ بل ربما أصبح الحاكم متحركاً بنبض الشارع ، فإذا كانت القلوب فيه مختلفة متخالفة صار هو مسلوب الإرادة ، مرتبكاً في الإدارة ؛ فلا تكون مسألة بقاءه أو زواله مرهونة بأكثر من ( غضب شعبي ) منفلت ، قد لا يكون الحق معه ولكنه حكم الشعب وسطوة الشارع ! .

حاكم مصر الآن يواجه قوى مدنيّة وأحزاباً علمانيّة معارضة تتشبث بأنصاف الفرص من أجل تهييج الشارع ، وتحريض القلوب على النظام القائم ؛ متخذة ( الإعلان الدستوري ) ذريعة لتسيير المظاهرات ، وتنظيم الإضرابات والاعتصامات بما فيها من مزالق ومحذورات خطيرة ربما تدفع الأمور نحو الفوضى المفضية إلى خلخلة أركان الحكم ودعائمه السياسية، أو – على أقل تقدير – املاء مطالبهم بعد مدّ أرجلهم ، وأخْذ نفس عميق كعلامة على انتصار الإرادة الشعبية المزعومة منهم ! .

المنظرون للإخوان المسلمين من الكتّاب أو المراجع العلميّة – في مصر وخارجها – لم يدّخروا جهداً في سبيل استقطاب عقول الناس وآرائهم إلى ما تبنوه حول الأزمة ؛ ومن خلال تعبئة فكرية ذات أهداف مؤتلفة ، وأساليب مختلفة .

فأما الأهداف فهي – باختصار شديد - متعلقة بتثبيت حكم الإخوان في مصر ، وتقوية ركائزه المعنوية ؛ وأما الأساليب فتنوعت ؛ إذ عمدت طائفة منهم - الآن فقط! - إلى كشف عورات المعارضين للرئيس ، وفضح مذاهبهم الفكرية وتوجهاتهم الحزبية ، أو تأكيد ارتباطهم بأجندات خاصة أو غربيّة ؛ لكنّك تجد طائفة أخرى من المنظرين قد حشرت نفسها في مقام إظهار الأحكام الفقهية للمظاهرات والاعتصامات ، والتعدي على شرعيّة ولي الأمر والآثار المترتبة على عدم طاعته ! ؛ فالقرضاوي – مثلاً – لم يتأخر في الحديث عن الفتنة التي تجلبها المظاهرات والاعتصامات إلى البلاد ، وما تسببه من الفرقة والتناحر بين الأخوة ؛ فيقول : " وإن كانت هناك ملاحظات على الإعلان الدستوري فإنها لا تقارن بالفتنة التي هي أشد من القتل، والفرقة التي سماها الله – تعالى – كفراً "، وقال عن ولي الأمر : " والأحاديث الواردة في الإثم العظيم لمخالفة أمره والاستهانة به أكثر من أن تُحصى " ! ، وعن الوحدة بين أبناء الشعب الواحد قال : " نحن نحتاج أن نتدارك ما فات وأن نُحيي ما مات فلماذا التشاحن والتباغض بين أهل مصر بسبب السياسة ؟ " ! .

الغريب المبكي :أنّ مثل هذا النهج عند النظر في الأحداث السياسية الحالية هو نفسه الذي جرى عليه من حرّم – ولا زال يحرّم – المظاهرات والإضرابات لما قد تؤدي إليه من الفتن والدّمار ، وهو ذات المسلك الذي بسببه رُمي أصحابُه من قِبَل الحزبيين والحركيين بتهم التخاذل والنكوص عن محاربة الفساد ! ، وأما تلك الأحاديث التي أشار إليها القرضاوي في حثه على طاعة ولي الأمر فهي بعينها التي اتهموا من استدل بها من قبل بالعمالة للسلطان ، وانعدام الفهم للواقع ! .

الأعجب من هذا وذاك أن القرضاوي قائلَ الكلام كان له عظيم الأثر في تأجيج الثورات التي نراها اليوم في دول ( الربيع العربي! ) ، والتشجيع على المظاهرات والنزول للشارع ، وإقراره وسائلَ الاحتجاج فيه ! ؛ فما الذي تغيّر ؟ .

لا تحفظ الأوطان عند النوائب والفتن ، أو المصائب والمحن إلا بقدر ما يتوافر بين أهلها من العلماء والحكماء ، وتوافد الناس عليهم والأخذ بأقوالهم ونصحهم ؛ وما كان من خلافات ومشكلات فالحوار الشرعي هو السبيل الأوحد للخروج منها ؛ لا المظاهرات ولا الإضرابات فهذه مزالق خطيرة ؛ تستدرج الناس إلى مواطن الشرّ والفتن من حيث لا يعلمون أو يشعرون ! ، ولو لم يكن فيها إلا الإضرار بمصالح العباد ومعايشهم ، وقطع الطرقات عليهم ؛ لكفى به دليلاً على تحريمها .

الإخوان المسلمون – هنا – مُصرّون على الاحتكام إلى الشارع والاستقواء به ؛ رغم المفاسد التي تبينت لهم فيه كثيراً ؛ وما الأحداث الأخيرة المؤسفة إلا شاهدة على هذا القول ، مؤكدة له ؛ وإلا فما كان معنى استمرارهم بتنظيم المظاهرات والاعتصامات في وقت تتعرض فيه الممتلكات العامة للحرق والتدمير ؛ ناهيك عمّا يتخلل مظاهراتهم من بعض الأفعال المنافية للسلميّة وحسن النيّة اللتين طالما دعوا إليهما ؛ وهم في هذا الإصرار لا يأبهون بمثل ما قاله القرضاوي للمتظاهرين ضد الرئيس في مصر ، ولا يلقون له بالاً في وسائلهم الإعلاميّة بل ويخفونه عن الناس قدر المستطاع ؛ في مقابل هذا تراهم يحتفون بمقالة واحدٍ ممن يحسبون على الدعوة السلفية في مصر ؛ ألقاها أثناء خروجه مع الإخوان في ( مليونية ) تأييد للرئيس مرسي ودستوره الجديد ؛ فسبحان مغيّر الأحوال والأقوال ! .

الإخوان المسلمون في مصر – لا شكّ الآن - يدعمون المذهب المانع للمظاهرات والإضرابات ، والمحرّم للاستهانة بولي الأمر ومخالفة أمره ، وتقديم المصلحة الوطنيّة العليا ، وأولوية درء الفتنة عن البلاد ، والصبر على البلاء لحقن الدماء ؛ وغير هذا مما هو حقّ ودين .

لكن إخوان الأردن ما برحوا عاكفين على سياسة الاستقواء بالشارع ، والحشد الجماهيري فيه ، والدعوة المتكررة للإضرابات والاعتصامات الشعبية والعمّالية ، والاستعلاء على الدولة ! ، وما أشبه من السلوكات والسياسات التي لا تخلو عادة من أسباب إشاعة الفوضى والاختلاف والفرقة ، وإحداث الشرر الذي قد يوقد نار الفتنة بين أبناء الوطن المستقر الآمن .

نعلم جيداً دوافع المنظرين للإخوان في تبنيهم المنهج الجديد المانع للمظاهرات والاعتصام؛ فحاكم المصريين ووليّ أمرهم الدكتور مرسي – وفقه الله للخير – من جماعة الإخوان المسلمين .. ؛ ولكن – على أيّ حال - نرجو أن يكون هذا عودة للحق الذي يجنّب أوطاننا براثن الفتن ، وأوارَ نارها المحرقة ، ويحقن دماء المسلمين ، ويحفظ عليهم أمنهم واستقرارهم ؛ مثلما نرجو لمصر – وسائر بلاد المسلمين – السخاء والرخاء والاطمئنان ؛ وهذا لن يكون إلا بنبذ أسباب الفرقة والاختلاف ، وجمع القلوب والائتلاف ؛ والتوافق على وليّ الأمر وعدم شقّ عصا الطاعة وإن أخطأ أو جار أو استأثر بشيء من القرارات والصلاحيات ؛ فإنّ طريق الفتنة في مصر – مع الأسف والأسى – مُمهّد ؛ ولا أقلّ من التعقّل والحذر ، والتسليم لأهل العلم والفقه والنظر .

وأما إخواننا هنا فحقٌّ عليهم اعتبارُ ما مضى ذكره ، واتّباع العدل والإنصاف فيما يحكمون ؛ وما لا يرضونه لجماعتهم في مصر من معارضات لا تقرأ – باسم الديمقراطية – إلا لغة الشارع والاستقواء بما فيها من مزلّات ومنزلقات ؛ فلا يأتون - هم - بمثله أو ينتهجون نفس المسالك ! .

الوطن أمانة في الأعناق .. فإذا رأى العاقلُ بوادر الفتنة مُقبلة إليه ؛ عاجلها بالفهم والاقتناع ، وعالجها بالعلم ما استطاع ؛ وإلا كفّ من لسانِه ويدِه ؛ فهو أسلمُ لدينه وأنفعُ لبلدِه .

وعلى الله قصْدُ السّبيل