طبيب جراح!
في الدقيقة الأولى التي دخلنا فيها مكتب رئيس وزراء ماليزيا، وبعد أن أخذت وزملائي مقاعدنا في مكتبه، قال لنا بفخر- بعد ترحيب دافىء-: إن كل ما في مكتبه صناعة ماليزية مائة في المائة، وهو يمنع إدخال أي شيء لمكتبه إلا إذا كان صناعة وطنية!
كان هذا منذ سنوات خلت، فمهاتير (أو محاضر) محمد، ترك المنصب الكبير طواعية، بعد أن نقل بلاده من حال إلى حال بما يشبه المعجزة، إنها تجربة تستحق أن نتوقف أمامها طويلا؛ لعلنا نستلهم منها ما يفيدنا في زمن ربيع العرب!
مساحة ماليزيا تعادل مساحة محافظة الوادي الجديد في مصر 320 ألف كيلو متر مربع وتزيد عن مساحة الأردن بأكثر من ثلاثة أضعاف بقليل... وعدد سكانه 27 مليون نسمة ، كانوا حتى عام 1981 يعيشون فى الغابات، ويعملون فى زراعة المطاط ، والموز ، والأناناس ، وصيد الأسماك، وكان متوسط دخل الفرد أقل من ألف دولار سنوياً ... والصراعات الدينية - 18 ديانة - هي الحاكم ... حتى أكرمهم الله بمهاتير محمد فهو الابن الأصغر لتسعة أشقاء ... والدهم مدرس ابتدائي راتبه لا يكفي لتحقيق حلم ابنه بشراء دراجة هوائية يذهب بها إلى المدرسة الثانوية .. فيعمل مهاتير ببيع الموز في الشارع حتى يحقق حلمه، ويدخل كلية الطب فى سنغافورة المجاورة ... ويصبح رئيساً لاتحاد الطلاب المسلمين بالجامعة قبل تخرجه عام 1953 ... ليعمل طبيباً فى الحكومة الإنكليزية المحتلة لبلاده حتى استقلت ماليزيـا في عام 1957، ويفتح عيادته الخاصة كجراح ويخصص نصف وقته للكشف المجاني على الفقراء ... ويفوز بعضوية مجلس الشعب عام 1964 ، ويخسر مقعده بعد خمس سنوات ، فيتفرغ لتأليف كتاب عن مستقبل ماليزيا الاقتصادي في عام 1970 ... ويعاد انتخابه سيناتورا في عام 1974 ... ويتم اختياره وزيراً للتعليم في عام 1975، ثم مساعداً لرئيس الوزراء في عام 1978 ، ثم رئيساً للوزراء في عام 1981 لتبدأ النهضة الشاملة التي قال عنها في كلمته بمكتبة الإسكندرية إنه استوحاها من أفكار النهضة المصرية على يد محمد علي .. فماذا فعل الجراح الماليزي ؟
رسم خريطة لمستقبل ماليزيا حدد فيها الأولويات والأهداف والنتائج ، التي يجب الوصول إليها خلال 10 سنوات .. وبعد 20 سنة .. حتى عام 2020، قرر أن يكون التعليم والبحث العلمي هما الأولوية الأولى على رأس الأجندة ، وبالتالي خصص أكبر قسم في ميزانية الدولة ليضخ في التدريب والتأهيل للحرفيين .. والتربية والتعليم .. ومحو الأمية .. وتعليم الإنكليزية .. وفي البحوث العلمية .. كما أرسل عشرات الآلاف كبعثات للدراسة في أفضل الجامعات الأجنبية. ثم أعلن للشعب بكل شفافية خطته واستراتيجيته ، وأطلعهم على النظام المحاسبي الذي يحكمه مبدأ الثواب والعقاب للوصول إلى النهضة الشاملة، فصدقه الناس ومشوا خلفه ليبدؤوا بقطاع الزراعة .. فغرسوا مليون شتلة نخيل زيت في أول عامين لتصبح ماليزيا أولى دول العالم فى إنتاج وتصدير زيت النخيل ففي قطاع السياحة .. قرر أن يكون المستهدف في عشر سنوات هو 20 مليار دولار بدلاً من 900 مليون دولار عام 1981 ، لتصل الآن إلى 33 مليار دولار سنوياً
وفي قطاع الصناعة .. حققوا فى عام 1996 طفرة تجاوزت 46% عن العام السابق بفضل المنظومة الشاملة والقفزة الهائلة فى الأجهزة الكهربائية ، والحاسبات الإلكترونية. وفي النشاط المالي .. فتح الباب على مصراعيه بضوابط شفافة أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية لبناء أعلى برجين توأم فى العالم في حينه.. بتروناس .. يضمان 65 مركزاً تجارياً فى العاصمة كوالالمبور وحدها .. وأنشأ البورصة التي وصل حجم تعاملها اليومي إلى ألفي مليون دولار يومياً. وأنشأ أكبر جامعة إسلامية على وجه الأرض ، أصبحت ضمن أهم خمسمائة جامعة فى العالم يقف أمامها شباب الخليج بالطوابير، باختصار .. استطاع الحاج مهاتير من عام 1981 إلى عام 2003 أن يحلق ببلده من أسفل سافلين لتتربع على قمة الدول الناهضة التي يشار إليها بالبنان ، بعد أن زاد دخل الفرد من 100 دولار سنوياً في عام 1981 عندما تسلم الحكم إلى 16 ألف دولار سنوياً .. وأن يصل الاحتياطي النقدي من 3 مليارات إلى 98 ملياراً ، وأن يصل حجم الصادرات إلى 200 مليار دولار وفي عام 2003 وبعد 21 سنة ، قرر بإرادته المنفردة أن يترك الجمل بما حمل، رغم كل المناشدات ، ليستريح تاركاً لمن يخلفه خريطة طريق وخطة عمل اسمها عشرون .. عشرون .. أي شكل ماليزيا عام 2020 والتي ستصبح رابع قوة اقتصادية فى آسيا بعد الصين ، واليابان ، والهند. سوف يسجل التاريخ .. أن هذا المسلم لم ترهبه إسرائيل التي لم يعترفوا بها حتى اليوم ، كما ظل ينتقد نظام العولمة الغربي بشكله الحالي الظالم للدول النامية ، ولم ينتظر معونات أمريكية أو مساعدات أوروبية ، ولكنه اعتمد على الله ، ثم على إرادته ، وعزيمته ، وصدقه ، وراهن على سواعد شعبه وعقول أبنائه ليضع بلده على الخريطة العالمية، فيحترمه الناس ، ويرفعوا له القبعة !!!
وهكذا تفوق الطبيب الجراح بمهارته وحبه الحقيقي لبلده واستطاع أن يحول بلاده الى نمر آسيوي يُحسب لها ألف حساب!