مصر : ثورة بديمقراطية أم بدونها

تعيش مصر حالة من الإستقطاب والتجاذب على المستويين السياسي والشعبي خاصة بعد صدور القرار الدستوري الذي أثار جدلاً وغضباً لدى بعض الأحزاب الليبرالية والقوى الثورية الشبابية وخاصة من الجهات المترصدة لإثارة الفتنة والفرقة لأسباب سياسية والتي بطبيعة الحال تتلائم توجهاتها وعنفها مع توجهات أتباع نظام الرئيس السابق حسني مبارك البائد.
مصر لم تكن طوال السنتين الماضيتين في إستقرار لكي تعود حالة عدم الإستقرار, بل هي كانت في مهمة شاقة تستكمل فيها تطهير البلد من الذين مازالوا يترأسون مواقع رفيعة في مؤسسات الدولة أمنية كانت أم قضائية أم غيرها, وبطبيعة الحال فإن الأوضاع الإقتصادية والأمنية عاشت وتعيش في تقلب مع إزدياد نشاط المُخربين الذين يريدون بمصر السقوط إلى الهاوية.
قبل الخوض في تفاصيل ردود الأفعال ضد القرار الدستوري الأخير يجب وضع الحقائق أمام الجميع منذ إعلان الرئيس المصري محمد مرسي رئيساً مُنتخباً لمصر وعدم التخفي بغيرها من باب إظهار صورة مقبولة وعدم الهروب من المواجهة بحجة سد الفتن. فالحقيقة البينة هي أن هناك أحزاب وأفراد تناضل وتكافح ليس كما تدعي لأجل مصر بل هي في الحقيقة تتقصد محاربة وجود الإخوان المسلمون أو أي إتجاه إسلامي في سدة الحكم, وهم كانوا ومازالوا يُراهنون منذ اللحظة الأولى من إنتخابه بإسقاط الرئيس وهذا مانسمعه مؤخراً في مظاهرات معارضة خرجت أصلاً ضد قرارات رئاسية. فبغض النظر عن القرار الدستوري الأخير فإن المواجهة ستكون على أي قرار كان أو سيكون ومهما كان حجمه ونتذكر هُنا الضجة التي أحدثتها أفواه أولائك وإعلامهم ضد القرار الذي قررته الحكومة بإغلاق المحلات بعد الساعة الحادية عشر ليلاً مثلاً في خطة لتقـنين إستخدام الكهرباء وموضوع النفايات وغيرها.إذن فلا هي مشكلة دستور ولا هي مشكلة قرار دستوري.. إنها ببساطة مشكلة رفض الآخر بحسناته قبل سيئاته وشعوراً منها بأحقيتها في الحكم. لكن كان القرار الدستوري الأخير كالقشة التي قصمت ظهر البعير فتعلقت بها تلك الأحزاب والقوى المعارضة للنظام الحاكم لكي تنفذ أجندتها الداخلية وبدعم خارجي لايمكن إخفائه كان عربياً وخليجياً بالأخص أم غربياً والدليل في كيفية تعاطي الإعلام التابع لتلك الدول مع الأحداث الجارية.
القرار الدستوري جاء واضحاً بأنه محاولة ناجحة لوقف سلسة القرارات القضائية التي من شأنها عرقلة ومحاولة وأد منجزات الثورة والتي بدأت بحل مجلس الشعب إلى تبرأة كل المجرمين والفاسدين ومن ثم حل الجمعية التأسيسية الأولى وغيرها من القرارات التي كانت حاضرة في إتخاذها في الوقت المُناسب لها.فالقضاء كان مُصاباً ببعض الذين لوثوا مكانته المهمة من أتباع النظام السابق على رأسهم النائب السابق المستشار عبدالمجيد محمود ولم يكن بوسع الرئيس غير إصدار قرارات ثورية مؤقته تسمح له بتطهير القضاء من تحصين لقراراته وإقالته وتعيين آخر.
قرار التحصين لم يكن الأول في تاريخ مصر فقد شهدت مصر إبان ثورة 52 وفي دستور سنة 56 قرارات تحصين مشابهة والقرارات الدستورية لم تكن الأولى بعد ثورة 25 يناير. وهُنا علينا أن نؤكد بأن مصر مابعد ثورة 25 يناير حتى اللحظة لم تتأسس بعد كدولة قانون كي يُحسب بأنه مخالفاً للقانون, فقد إنتخب الشعب الرئيس مرسي كي يأسس ويبني دولة القانون التي بطبيعة الحال تبدأ بعد إعتماد الدستور, وبغير ذلك فإن القرارات الدستورية أو الإعلانات الإستثنائية هي مرحلة ثورية مؤقتة لتسيير أمور الدولة وإستكمال تطهير بقايا النظام السابق.
الدستور المصري الجديد المعروض على الشعب للإستفتاء عليه كُتِب بتوافق الأغلبية ولمدة 6 شهور وتم قراءة المسودة أكثر من 3 مرات بعد الإنتهاء منه وإستغرقت كل مادة مايقارب 300 ساعة عمل وما كان إنسحاب أغلب الليبراليين واليساريين فجأةً منه إلا سياسياً وبحجة الأغلبية للإتجاه الإسلامي في الجمعية التأسيسية ومع ذلك فإن الفرصة كانت متاحة لهم في يوم إقرار الدستور لكي يعترضوا عليه سلمياً وديمقراطياً داخل الجمعية ومع ذلك رفضوا , لذلك فإن هناك أسباباً غير معلنة على الإعلام دعت هؤلاء للإنسحاب فجاة بعد 6 شهور من العمل.
القوى الثورية الشبابية صاحبة الفضل الكبير بعد الله مستثناه من اللعبة الخبيثة التي تقوم بها بعض الشخصيات بأحزابها الجديدة التي تناكف وتحرّض وتصعّد من مواقفها ضد الديمقراطية والشرعية التي لطالما كانت تطالب بها. إلّا أن الغريب في الأمر هو انسياقها خلف تلك الشخصيات والأحزاب في تأجيج الإنقسام بين الشعب وكان عليها على الأقل تكون "المعارضة الوسطية" التي على الأقل تعمل على تهدئة الشارع في مقابل حقها في الإعتراض والإعتصام.
إن أي تسويق للتخريب والحرق والإعتداء على المواطنين وعلى المرافق العامة والخاصة والإنقلاب على الشرعية ومُطالبة الغرب بالتدخل وتحريض الجيش على الرئاسة هي مسؤولية الجميع من كل الإتجاهات لرفضه والعمل على وأده وإخماد الفرقة والفتنة التي بكل تأكيد تحقق مآرب القوم الذين يستمتعون في مشاهدة الدماء حين تسيل ومسؤولية الجميع الوقوف بوجه المندسين وعدم الإنجرار لتحقيق أجندات بعض من نصبوا أنفسهم قيادات للمعارضة الذين عليهم أن لايتاجروا بالثورة
المليونات المتبادلة حق مصون لجميع أطياف الشعب مادامت سلمية وهذا مؤشر يعكس الحرية في الرأي لكن ليس من حق أي طرف التطرف في الشعارات أو في الأفعال من تعدي أو تحريض الذي من شأنه الإخلال بالسلمية والإستقرار
الرئاسة أخطأت في عدم إشراك القوى الثورية أو حتى التمهيد لها بالقرارات التي تحتمل أكثر من تفسير, ولم تكن شفافة بالشكل الفاعل الذي يمكن أن يوضّح للمواطن العوائق التي تواجه الحكومة في تحقيق إنجازات الثورة وهي مطالبة أيضاً بإحتضان الموقف وضبط الإنفلات من كل الأطراف. الرئيس المصري خرج للشعب في كلمة تُعبّر عن الشدة واللين في آن واحد , فقد رفض ووعد بحساب كل من أخلّ بأمن البلاد وأسال دماء المصريين وترك استمرار الإعتصامات في أنحاء مصر بعدما رفض الرئيس إسقاط الإعلان الدستوري أو حتى تجميده, لكنه في نفس الوقت قدم إستعداده للتخلي عن قرار التحصين ودعا رسمياً كل القوى للحوار والإستماع والإتفاق على صيغة موحدة للخروج من الأزمة وكان أهم مافي خطابه هو تعهده بعدم إستخدام أي قرارات غير سيادية وإعتبار القرار الدستوري لاغياً بعد الإستفتاء بغض النظر عن النتيجة كانت بنعم أم لا. لكنه لم يسمح في خطابه بأن يظهر مستسلماً أمام بعض الجهات التي كانت ستحاربه حتى لو أسقط الإعلان. وكنا نأمل بأن يؤجل الإستفتاء على الدستور مدة شهرين ومازلنا نأمل من الرئيس ذلك لأجل الشعب والوطن ولا أحدا غيرهم.
الدستور المصري الجديد رفضته أغلبية القوى المُعارضة قبل قرائته لتتفقد ماهو يختلف مع تطلعاتها كي تدعم حجتها, بل مارس البعض وحمل على عاتقه تشويه الدستور إلى أن وصل في البعض تحريفه وتوزيعه بإدخال مواد من شأنها إثارة غضب الكثيرين كتحريف مادة بإدخال مادة تقول بأن سن الزواج يبدأ من عمر التاسعة وبالمناسبة بأن طبيعة التشويه للدستور تمس الناحية الدينية محاولين بذلك إحراق مصر كما حاول سابقاً نظام مبارك من عمليات تفجير الكنائس وإتهام المجموعات الإسلامية بذلك. وهذا له دلالة كما سبق وقلنا بأنهم لايريدون بأي حال من الأحوال أن يحكم أي توجه إسلامي لجمورية مصر وهذا بحد ذاته تدمير لمبدأ ومفهوم الديمقراطية والتعايش المشترك.
الكل مُطالب للحوار وإلّا فإن الكل سيدفع الثمن غالياً ولن نكون هناك سُلطة غير سلطة الفوضى والدماء لا سمح الله. حفظ الله مصر وشعبها