ما أحلاك يا وطني ... عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك

الاعلامي بسام العريان
حب الوطن لا يكمن في الهتاف له وإنما في خدمته والمساهمة في بنائه, فعندما تهتف الحناجر تملأ الدنيا صراخا وعندما تهتف العقول تملأ الدنيا عملا"

حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك
وطننا هو ملك لأبنائه، وهم كلهم شركاء فيه، ينعمون بخيراته ويصيب كل واحد منهم الأذى فيما لو أصابه أذى لا قدر الله، وكل واحد منهم حارس لأمنه، صائن لمكتسباته
إن الوطن هو المحضن الأول، وعش الذكريات التي تسلمها الطفولة إلى الرجولة، وتحملها الرجولة إلى الشيخوخة، ومن كمال الإنسان أن يحب وطنه، وأنصع دليل على ذلك حبه صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة، وقوله لها:
"ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك".

والحب الصادق: عاطفة في الجنان، وتعبير باللسان، وعمل يظهر للعيان، ومن ثماره نشر الأمان وشد البنيان، وخدمة العمران، وتحقيق هذا الحب - بأركانه - من أوجب واجباتنا جميعاً، فلنجتهد في تحقيقه في أسمى صوره وأبهاها.

إن ما قاله الناس في أوطانهم، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، شعراً ونثراً لا يمكن حصره وتسجيله، وقد وقعت على رسالة لطيفة لأديب العربية الكبير الجاحظ عنوانها: "الحنين إلى الأوطان" جمع فيها نفائس وشوارد وحكماً، منها قولهم:

- حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، لأن غذاءك منهما وأنت جنين، وغذاءهما منه.

- وقول أحد الأدباء : " عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك"

- وقول ابن عباس رضي الله عنهما: لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزق، وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب، والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم الريف. ولذلك قال أطباء الأقدمين: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه. وقالوا: يتراوح العليل بنسيم أرضه كما تتروح الأرض الجدبة ببلل القطر!

أما كيف أحب الوطن؟ فإن الجواب واضح في نفسي وضوح الشمس في رابعة النهار:

وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ولست في هذا الحب بدعاً فأبناء هذا الكيان جميعاً يحبونه، ويعتزون به، ويفخرون بالانتماء إليه، وإن أخطأ بعضهم الطريق، أو عرى رؤيته غبش فإن على الآخرين العمل على مناصحته وتصحيح مساره، وإزالة الغبش عن رؤيته.

ويمكن غرس حب الوطن من خلال مؤسسات التربية التي عليها أن تعمل على:

1- إعداد مواطنين صالحين لهم من المعرفة الرصينة والأخلاق الحميدة والاتجاهات السليمة ما يعينهم على القيام بواجباتهم.

2- تعريف الناشئة والشباب أن بلادهم - المملكة الاردنيه العاشميه ارض العروبة والإسلام وأرض البطولات والأجداد، وأن لها منزلة خاصة في العالمين العربي والإسلامي؛ وأن شعبهم الاردني جزء، لا يتجزأ من الأمتين العربية والإسلامية، وأن مصيرهم جميعاً واحد، وأن هذا المصير المشترك يوجب عليهم التعاون والتضامن والاتحاد؛ عملاً بقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا).

3- غرس حب العمل، أياً كان نوعه، ما لم يكن منافياً للدين، في نفوس الناشئة والشباب، ليس لأهميته في نهضة الأمم ورفاهية أبنائها فحسب؛ بل لأنه مطلوب شرعاً وسبيل إلى مرضاة الله تعالى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب الحلال جهاد).

4- تعريف الناشئة والشباب بمؤسسات بلدهم وتنظيماته الحضارية، وأن هذه لم تأت محض مصادفة، بل ثمرة عمل دؤوب، وكفاح مرير، وأنها في لبابها مرآة صادقة لشخصية الأمة وأخلاقها، ومن ثم فواجب على المواطنين والوافدين من دون استثناء احترامها ومراعاتها.

5- تنمية اتجاهات الأخوة، والتفاهم، والتعاون التي يجب أن تسود المواطنين والناس أجمعين لقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

وطننا هو ملك لأبنائه، وهم كلهم شركاء فيه، ينعمون بخيراته ويصيب كل واحد منهم الأذى فيما لو أصابه أذى لا قدر الله، وكل واحد منهم حارس لأمنه، صائن لمكتسباته.

إن أول ما يتبادر إلى ذهني - وأنا أفكر في (المواطنة) - صورة أسرة هانئة هادئة، سعيدة متحابة، متعاونة متكاتفة. أفرادها متفاهمون، نشيطون كل واحد منهم يعرف واجبه ويقوم به ويزيد عليه أحياناً، ويعرف حقوقه فيطالب بها ويتسامح بها أحياناً!

وأتساءل: هل تستقيم الحياة في بيت لا يشترك الجميع في حمل مسؤولياته، ولا يتعاونون على تنظيفه، وترتيبه، وصيانته، وحراسته، وتجميله، وتحسينه؟ بل ويحملون لكل زاوية من زواياه معزة خاصة لما ارتبط بها من ذكريات؟! لا أظنها تستقيم، وكذلك الحال في الوطن... فما لم يكن أبناء المجتمع وبناته أسرة واحدة، يشعرون بالانتماء الصادق إلى وطنهم، ويغارون على أرضه وعرضه وإنجازاته ومكتسباته، وخيراته وثرواته، ويتعاملون معها كما يتعامل الفرد في الأسرة مع ما يضمه بيته من متاع، وأثاث، وكتب، ومقتنيات، ويحرسونها (من الداخل) فلا تكسر أو تتلف، (ومن الخارج) فلا تسرق أو تمتهن... ما لم يكونوا كذلك فإن الحال لن تستقيم في ذلك الوطن، وسيكون عرضة لأمراض داخلية وأخطار خارجية.

إن المحبوب في عيني محبه هو مثال الكمال في الجمال، ولو كان في حقيقة أمره غير ذلك، وحب الوطن - وإن كان مختلفاً عن حب الإنسان للإنسان من عدة وجوه - يشبه هذا الحب، فلا يرى المواطن المخلص في وطنه إلا ما يحبه عليه، ويحن إليه إذا نأى عنه. هذا هو الحال العام فكيف إذا كان الوطن زاخراً بالجمال الحسي والجمال المعنوي

إن من واجب المؤسسات المختلفة، ومن واجب الأفراد على حد سواء: العمل على إعداد المواطن الصالح الذي يعرف حق أولي الأمر عليه، وحق وطنه عليه، ويدرك أن هذا الوطن بقدر ما يسعه يسع إخوانه فيه، وأن لهؤلاء حقوقاً، أقواها حق القرابة القريبة، وحق أولي الأرحام، ثم هي تتدرج حتى تصل إلى حقوق ضيوف الوطن من المستأمنين والذميين، وبين أعلى درجاتها وأدناها درجات متعددة: للجيران، والزملاء، والأصدقاء، وغيرهم من الناس جميعاً.

والمواطن الصالح يعرف أن الناس لا يصلحون فوضى، ولذلك فلابد من نظام يجمعهم ورابط يوحد جهودهم لخدمة الوطن، وأن هذا النظام وتلك الرابطة لهما حق الطاعة بالمعروف، والنصح عند الحاجة إليه، وأن آخر أمرها لا يصلح إلا بما صلح به أولها: طاعة الله ورسوله ويدرك هذا المواطن تمام الإدراك أنه مطالب بالاسهام في إنماء وطنه وتطوره، وأنه يجب عليه الذود عنه في وجه عدوه والخارجين على نظامه. أما إذا كان العدوان من أبنائه، فواحسرتا - إذن - على الأولاد الذين يعقون أباءهم، وعلى المتنكرين للجميل الذين يقابلون بالإساءة الإحسان، وهؤلاء يجب أن يكبح جماحهم، ويؤخذ على أيديهم.

إن المحب الصادق يبذل جهده في إرضاء من يحب أو العناية بما يحب.. ولحب الوطن علامات وطرائق كثيرة، لا يكفي فيها اللفظ باللسان، ما لم يقم عليها البرهان، ومن هذه الطرائق:

- الحفاظ على ممتلكاته ومكتسباته.
- والإسهام في تنميته وازدهاره.
- وحفظ أمنه واستقراره.
- والدفاع عنه إذا تعرض لشر.
- والتصدي للشائعات المغرضة.
- والنصح لولي الأمر وفق الضوابط الشرعية والآداب المرعية ويجب أن يعرف الناصح أن رأيه ليس بالضرورة هو الصواب، بل هو اجتهاد قد يخطئ فيه وقد يصيب.

- التسامح مع الآخرين والتغاضي عن أخطائهم.

- والتكاتف مع أبنائه على اختلاف المناطق والقبائل.

- والسعي إلى أداء الواجبات نحوه قبل المطالبة بالحقوق.

- وتقديم المصلحة العامة على المصالح الخاصة.

- وغرس قيم الانتماء والولاء والتعاون والوفاء في نفوس أبنائه.

- ومحاورة المخالفين بالتي هي أحسن.

- والتركيز في العمل التطوعي الذي ينفع الوطن والمواطنين لا يرجو صاحبه الأجر عليه من الناس، بل يدخره عند الله.

- وغرس الوعي بالوحدة الوطنية، وبالوشائج القوية التي تربط بين أبناء هذا الكيان، وإن تباعدت أجزاؤه، أو اختلفت لهجات أبنائه. ولقد رأيت بأم عيني أناساً من بلدان أخرى يغارون على وطنهم أن ينتقص من حقه، أو يغمز من نظامه، بل يدافعون عن أخطائه، رأيتهم حين ينشد نشيدهم الوطني تنسكب الدموع من عيونهم، وبالمناسبة فأنا أرى أن القيام للنشيد الوطني ليس فيه معنى ديني بل هو مثل قيام الولد للوالد، وطالب العلم لشيخه، والتلميذ لأستاذه.

- ومن صميم الوطنية أن نتصرف بالشكل الذي يحبنا الناس فيه، ويحترموننا وأعني بالناس طائفتين:
الأولى: الذين وفدوا إلى بلادنا زائرين أو عاملين، فهؤلاء لهم علينا حق الضيف، رعاية واحتراماً وإكراماً، أليس من العجيب أن يقضي بعضهم السنين الطوال بين ظهرانينا ولا يدخلوا بيوتنا، ولا ندعوهم إلى طعامنا، ولا نشعرهم أنهم ليسوا في غربة، بل هم نزيلو معشر من الكرماء اللطفاء الأوفياء.
والطائفة الثانية هم الذين نزور بلادهم، فكل واحد منا سفير لهذا الوطن يجب عليه ألا يشوه صورته في أعين الآخرين، وألا يأتي بما يشين، بل يكون مثالاً يحتذى في الاستقامة والذوق وحسن المعاملة.

لقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع المسلم بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداع له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. والإنسان إذا اشتكى منه عضو أسرع إلى الطبيب ليداويه، ويبذل في ذلك وسعه، فإذا أعياه ذلك، وكان بقاء هذا العضو خطراً على الجسم أزال العضو كلياً، فإن كان سناً خلعه، وإن كان إصبعاً قطعه!!

وفي المجتمع إذا مرض عضو بالانحراف، أو الإرهاب، أو الغلو والتطرف، أو ما إلى ذلك، يحجر عليه، ويأخذ ولي الأمر في علاجه بحسب حاله، ليكف أذاه عن الآخرين.

علينا أن نتفاءل وأن ندعو كل من يعمل في سبيل إعلاء شأن كياننا الاردني ، وفي درء الشر عنه، وفي سبيل رفعة مكانة بلادنا أن يحاول تحقيق نجاحات صغيرة في موقعه الذي هو فيه، فأشد ما يحتاجه وطننا في الزمن الحالي ليس التصويت إلى النجوم بل قطع مسافات (وإن كانت قصيرة) في الرحلة على الأرض نحو الغايات السامية؛ فالنجاح يدفع إلى النجاح، ولنفتح صدورنا للحوار فليس شيء أنجع لحل المشكلات وصنع الرقي والنهوض بالوطن من اجتماع العقول، ولنحاول - كل منا في موقعه - أن نلتمس في الحاضر عناصر قوة فننميها، ومواطن نجاح فنشيد بها، وأخاً يبذل ذوب نفسه فنشجعه ونسانده، وموقفاً يمكن أن ننطلق منه بخبرة امتلكناها فنسرع بالتطوع للعمل بها؛ ففي الأزمات - جنبنا الله حدوثها - يظهر الخلق الكريم على أنه أنجح المساهمات لانفراجها.

ومن الخير دائماً أن نتذكر أن ما أفاء الله به علينا من نعم يجب ألا يكون - بأي حال من الأحوال - سبيلاً إلى التعالي على غيرنا، أفراداً وشعوباً، أو مدعاة إلى الأثرة، أو موجباً للتقليل من شأن الآخرين، فالنعم كما جاءت تزول، ويبقى جوهر الإنسان الكريم في نقائه وتواضعه وطهره، وإحساسه العميق بانتمائه من خلال ما يحمل من قيم، ويلتزم به من سلوك نحو أولي الأمر، ونحو بلاده، ونحو أمته العربية والإسلامية.

أننا جميعاً مدعوون إلى أن نبرهن على حبنا وانتمائنا لهذا الوطن بالعمل الإيجابي ونبذ الأنانية، والتحرك على علم وبصيرة والتحاور على حب، والعمل على تعاون، والثقة بأن الله الرحمن الرحيم لا يضيع أجر من أحسن عملاً: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).

وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.