حالة من الغموض تكتنف فلسطين

على الرغم من علامات الاستفهام التي يطرحها الخبراء القانونيون حول أهمّية التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي منح فلسطين صفة دولة مراقِب غير عضو (بعدما كانت تُصنَّف بـ"الكيان")، إلا أن رمزية الحدث لاتزال تتردّد أصداؤها في مختلف أنحاء المنطقة. فمن أصل 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة، دعمت 138 طلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 29 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، في خطوة رأى كثيرون أنها يمكن أن تشكّل محطّة انتقالية نحو العضوية الكاملة. وتحمل المبادرة التي تأتي في مرحلة حسّاسة جداً في المنطقة، فرصاً للعودة إلى طاولة المفاوضات، لكنها تنطوي أيضاً على مخاطر كبيرة بإشعال فتيل العنف.

بالنسبة إلى الرئيس الفلسطيني، شكّل طلب العضوية في الأمم المتحدة وسيلةً، من جملة أمور أخرى، لتعزيز شعبيّته عبر تحقيق انتصار رمزي. ففي الأشهر الأخيرة، تكبّد عباس العديد من الانتكاسات الدبلوماسية، ولاسيما صعود "الإخوان المسلمين" (المنظمة الأم لحركة "حماس") في مصر، وزيارة أمير قطر إلى غزة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ويُتوقَّع أن يزور رئيس الوزراء التركي غزّة أيضاً بعد أيام قليلة، مايُسبِغ شرعيّة إضافية على حركة "حماس".

حتى إن عباس لمّح في مقابلات أجريت معه مؤخراً، إلى أن الإنجاز الذي تحقّق في الأمم المتحدة قد يمنحه التمكين الكافي لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات مع إسرائيل (وهو كان استخدم سابقاً ضعفه الداخلي لتأجيل المفاوضات ووضع شروط مسبقة). ونظراً إلى الاحتفالات بالنصر التي عمّت رام الله وأماكن أخرى في الأراضي الفلسطينية، يبدو أنه نجح في تعزيز صورته. لكن في الوقت الراهن، لم يؤتَ كثيراً على ذكر المفاوضات (وغالب الظن أننا لن نسمع الكثير عن المفاوضات قبل تبلور نتائج الانتخابات الإسرائيلية الشهر المقبل).

في تطوّر مفاجئ، بثّ النزاع بين "حماس" وإسرائيل في الأسابيع الأخيرة والهدنة التي أعقبته، حياة جديدة في عملية المصالحة الداخلية الفلسطينية، مع تنظيم تجمّعات مشتركة فضلاً عن بوادر رمزية أخرى، مثل العفو الذي من المزمع منحه للناشطين المُلاحَقين في غزة والضفة الغربية. إلا أنه لايُعرَف بعد إذا كان بإمكان الأطراف أن يتجاوزوا بسرعة الانقسام الفلسطيني الذي شابته حرب أهلية قصيرة في العام 2007 عندما استولت "حماس" بالقوة على غزة.

لقد أحدثت العملية الإسرائيلية التي استمرّت ثمانية أيام في غزة، تحوّلاً هائلاً في المشهد السياسي الفلسطيني. فبعدما كان من المتوقّع أن يتقاعد رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، خالد مشعل، من منصبه الشهر الماضي (تحت تأثير الضغوط من المتشدّدين في غزة بحسب المعلومات)، عاد فجأة ليؤدّي دوراً محورياً. في العام الماضي، وقّع مشعل وعباس اتفاق مصالحة في قطر، بيد أن فصيل "حماس" في غزة نسف المبادرة؛ والآن بعدما أُضعِف خصومه في غزة، ينتهز مشعل الفرصة لإعادة إحياء الاتفاق.

وهذا ليس كل شيء، فقد تبنّى مشعل أيضاً مبادرة عباس في الأمم المتحدة، حتى إنّه لمّح إلى أنه يفكّر في التحوّل نحو "المقاومة غير العنيفة".

وقد أعلن الداعية الإسلامي المرموق في غزة، سلمان الداية، الذي يُقال إنه يحظى بالاحترام حتى في أوساط المتشدّدين الدينيين في قطاع غزة، أن خرق وقف إطلاق النار هو مأثمة، وكأنه يدعم بموقفه هذا كلام مشعل.

أما إسرائيل، من جهتها، فقد منحت "حماس" ومشعل إنجازاً ملموساً من خلال التنازلات التي قدّمتها مثل التخفيف من القيود على الحدود، لكنهما يمكن أن يخسرا هذا الإنجاز في حال انهارت الهدنة.

تنطوي هذه التحوّلات البارزة على مفارقات كثيرة. فمشعل الذي كان يُعَدّ متطرّفاً من قبل، تعرّض إلى محاولة اغتيال فاشلة في الأردن في العام 1997، بناءً على أوامر صادرة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو في ولايته الأولى. لكن مافعله نتنياهو الآن هو إنقاذ حياة مشعل السياسية، ولاسيما عبر اغتيال العديد من خصومه في الداخل. ويُتوقَّع أن يقوم مشعل قريباً جداً، بفضل وقف إطلاق النار الذي ساعد في التوصّل إليه في مصر، برحلته الأولى إلى غزة وأن يُعيد تأكيد سلطته هناك (ومشعل يتحدّر من الضفة الغربية، ويعيش في المنفى منذ العام 1967).

ومع أنه من الصعب وصف مشعل بالمعتدل بحسب المعايير الغربية (علماً أن "حماس" تعهّدت بأن تتسلّح من جديد، معربةً علناً عن امتنانها للمساعدات العسكرية التي تحصل عليها من إيران)، إلا أن دعمه للمبادرة في الأمم المتحدة يضعه في الجانب المعتدل في مقابل المتشدّدين الذين يرفضون رفضاً قاطعاً فكرة قيام دولة داخل حدود 1967 ويُصرّون على تدمير إسرائيل تدميراً كاملاً. ومشعل نفسه يرفض الاعتراف صراحةً بإسرائيل، لكنه أشار في مقابلات أجريت معه مؤخراً إلى أنه بإمكان دولة فلسطينية، عند تشكيلها، اتّخاذ مثل هذا القرار.

لايزال من المبكر جداً معرفة كم سيدوم توازن القوى الجديد داخل "حماس" وفي غزة، وأحد الأسباب هو تأثير العوامل الخارجية. يسدّد وقف إطلاق النار وصعود الأصوات المعتدلة نسبياً داخل "حماس" ضربة للمصالح الإيرانية في المنطقة. ونتيجةً لذلك، قد تسعى طهران إلى نسف هذه التطوّرات (ربما من خلال بعض التنظيمات الأصغر حجماً والأكثر راديكالية التي تموّلها في غزة).

كذلك، أدّت مصر، التي يُعَدّ رئيسها المنتمي إلى "الإخوان المسلمين" حليفاً لحركة "حماس"، الدور الأبرز في التوسّط للتوصّل إلى وقف إطلاق النار، وهي لديها مصلحة قويّة في نجاحه. بيد أن الأزمة السياسية التي نشأت في البلاد مؤخراً قد تُحوِّل أنظارها بسهولة عن غزة وتساهم في انهيار الهدنة.

تشكّك إسرائيل من جهتها في جهود المصالحة، وقد أبدت معارضة شديدة للمسعى الفلسطيني في الأمم المتحدة. فبالنسبة إلى الإسرائيليين، ليست حدود 1967 المذكورة في اقتراح عباس، عرضاً جذّاباً، لأنها لاتضمّ القدس الشرقية أو أياً من المستوطنات الكبرى التي بُنيَت في الضفة الغربية منذ ذلك العام، والتي تؤدّي، بحسب هؤلاء الإسرائيليين، دوراً دفاعياً مهماً. لقد قامت الصيغة التي استندت إليها معظم الجولات الأخيرة لمفاوضات السلام، والتي وافق عليها أيضاً الرئيس الأميركي باراك أوباما، على "حدود 1967 مع مقايضات مُتّفَق عليها ومُتبادَلة في الأراضي".

ردّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يسعى إلى ولاية جديدة في كانون الثاني/يناير 2013، على تصويت الأمم المتحدة بإعلان "رفضه" له، واقتطاع فواتير الكهرباء غير المدفوعة من أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل بالنيابة عن حكومة عباس، والسماح ببناء مستوطنات جديدة (بما في ذلك خطة لبناء منطقة حسّاسة جداً تؤدّي إلى شطر كامل الضفة الغربية تقريباً). من شأن هذه الخطوات الانتقامية أن تُسدّد ضربة خطيرة لقابلية الدولة الفلسطينية للحياة، بيد أن الخبراء الإسرائيليين يقولون إن تطبيقها مستبعد. (قال نتنياهو نفسه في مقابلات معه إنه أجاز فقط "التخطيط" للمستوطنة ولم يُجِز بناءها). يبدو في الوقت الحالي أن الأمر يقتصر على التهديد بداعي الاستهلاك المحلي، وليس تحرّكاً جدّياً.

مادام الفلسطينيون يكتفون بالخطوات الرمزية، فمن المرجّح أن تفعل الحكومة الإسرائيلية الشيء نفسه أيضاً. فعلى الرغم من بعض التكهّنات بأن التصويت في الأمم المتحدة قد يؤدّي إلى اعتراف قانوني بحكم الأمر الواقع بفلسطين كدولة، إلا أن الخبراء عموماً يعتقدون أن هذا لن يحدث. تقول ماري إلن أوكونيل، الأستاذة في مادّة القانون وتسوية النزاعات الدولية في جامعة نوتردام، إن "خلاصة الموضوع هي أن العضوية الكاملة في الأمم المتحدة هي السبيل الوحيد إلى تبديد كل الشكوك حول وضع كيان معيّن وتثبيته كدولة ذات سيادة".

فضلاً عن ذلك، إذا حاول الفلسطينيون تجديد دعواهم ضدّ القادة والجنود الإسرائيليين أمام محكمة الجنايات الدولية (وهو احتمال نظري انطلاقاً مما ورد في قرار صدر مؤخراً عن مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية، مع أن المعلّقين يقولون إنه مستبعد)، فغالب الظن أن الرد الإسرائيلي سيكون قوياً جداً. فبحسب تقارير نشرتها الصحافة الإسرائيلية، يمكن النظر في إجراءات تصل إلى حدّ إطاحة حكم عباس.

حالياً، يمرّ الأفرقاء الثلاثة في المشهد السياسي الإسرائيلي-الفلسطيني، أي إسرائيل والسلطة الفلسطينية و"حماس"، في حالة من التغيير والتقلّبات. وبما أن المنطقة بأسرها تشهد مرحلة من انعدام الاستقرار، يصعب كثيراً أن نتوقّع كيف سيتطوّر التوازن بين هؤلاء الأطراف في الأشهر والسنوات المقبلة. في هذا السياق، تُطلق التطوّرات الأخيرة موجة من الاحتمالات الجديدة، لكنها تحمل المخاطر أيضاً. فالتاريخ يُظهِر أن شبح العنف ماثلٌ على الدوام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولاسيما عند تفويت الفرص الجيّدة.

فيكتور كوتسيف صحافي ومحلّل سياسي مستقل يركّز على الشرق الأوسط.