صحافة الوجبات السريعة

فكرة "تصنيع القبول"فكرة قديمة، تعود إلى بحوث وممارسات ليبرالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد برزت كأسلوب تتبعه ديمقراطيات سلطوية بهدف سرقة الرأي العام وتزييفه أو تعليبه. "تصنيع القبول" قريب من التسويق السياسي، ويستخدم في المراحل الانتقالية وضمن مسار إدارة التغيير، ولكنه في الكثير من الأحيان يستخدم تحت أسواط مصادرة الحريات، فيما العنوان الكبير والظاهر فائض من الحريات. والفكرة التي كانت مقبولة في زمن الحرب الباردة، حتما تبدو مكشوفة في مجتمعات ما بعد الربيع العربي.منذ منتصف التسعينيات، برزت أمراض بعض الديمقراطيات مجددا في إعادة تصنيع القبول. وفي هذه المرة، ظهرت نظرية جديدة مفسرة لما يجري هي نظرية "صحافة الوجبات السريعة"؛ كيف بات الإعلام يوظف في هندسة الرأي العام تحت شعارات وممارسات ديمقراطية، فالناس مطلوب منهم أن ينكبوا على سلعة واحدة شهية متشابهة وكبيرة، مثلما يحدث في مطاعم الوجبات السريعة التي تتعامل مع البشر مثل الآلات. وكذلك كيف يتحول الإعلام إلى صناعة القبول المزيف. حدث ذلك في مواجهة أمراض الديمقراطيات الناضجة، فما بالك في مجتمعات لم تعرف من الديمقراطية إلا الشعارات والوعود؟وتعميم مفهوم "الوجبات السريعة" على المزيد من القطاعات في المجتمع والحياة الاجتماعية والثقافة والسياسة، وبواسطة الإعلام، يقوم على أربعة أبعاد أساسية: الأول، الكفاءة في الوصول إلى الخدمات والسلع، كما هو حال مطاعم الوجبات السريعة. والثاني، الكم على حساب النوع، أي الاعتماد على العدد؛ فحجم الوجبات السريعة أصبح مقياسا للقيمة. والثالث: القدرة على التنبؤ بسلوك الزبائن. والرابع: التحكم من خلال التكنولوجيا الواسعة التي تجعل الجهد البشري مجرد مراقب.وصاحب انتشار صحافة "الوجبات السريعة" ازدهار الصحافة المحلية من خلال زيادة حجم الإعلانات ونمو أرباح هذه الصحف في الوقت الذي يتراجع فيه عدد قرائها. وتقوم نظرية الوجبات السريعة في الصحافة على تقديم صحف موحدة، أي متشابهة في المضمون؛ وقادرة على التنبؤ، أي معرفة ما يطلبه القراء بالفعل، الأمر الذي ينعكس بالتالي على حجم الإعلانات والاعتماد على الكم بدل النوع، إذ تقوم الصحف ووسائل الإعلام بالاعتماد على النشرات والأخبار المعدة مسبقا كما تريده السلطات، فيما يتجادل الكُتاب والمعلقون على تفسير ما تريده السلطات، وكأن لا فرق بين مهمة "عمال مطاعم الوجبات السريعة" الذين يقومون بمجرد تسخين الوجبات وتقديمها للزبائن، مقارنة مع الممارسات الجديدة للصحفيين الذين لا تتطلب مهمتهم أكثر من تقديم وجبات إعلامية ساخنة، ولكن على المقاس."تصنيع القبول" يعني محاولة اختطاف الرأي العام باسم الديمقراطية، وبطرق ديمقراطية. ويتم ذلك بمنهجيات متعددة، منها ضبط وإعادة هيكلة وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني لتعمل لصالح "تصنيع القبول". إذ يتم ذلك بطرق تبدو ديمقراطية بدون إرغام، لكي يبدو أن الناس تذهب بهذا الاتجاه أو ذاك برضاهم، ثم السيطرة على قادة الرأي، بمعنى أن لا يظهر قائد رأي إلا بعد أن يمر بمرحلة الغربلة والتدقيق. ويسهم في ذلك إنتاج نخب جديدة أو إعادة تأهيل نخب ثقافية ونجوم في الإعلام على المقاس المطلوب، تبدو أنها أسماء مستقلة ومصونة.يصف إدوارد برنايز فكرة "تصنيع القبول" ضمن ما تتيحه نماذج الديمقراطية من إمكانات للتحكم بالرأي العام من خلال نخب صغيرة في السلطة، ومن هم على هوامش السلطة ووسائل الإعلام، كون نمط التفاعلات الديمقراطية تسير من الأعلى إلى الأسفل. والمهم غربيا أن تسريبات "ويكيليكس" كشفت تاريخا طويلا من سياسات تصنيع القبول في الغرب، والتي لا يمكن أن تمرر بنفس المنهج مرة أخرى في تلك المجتمعات. ولكن المفارقة كيف تنتج اليوم منتجات صناعة القبول سيئة الجودة وبالجملة، وعلى طريقة عمال مطاعم الوجبات السريعة في مجتمعات الربيع العربي، ويتم استهلاكها بالصحة والعافية!basim.tweissi@alghad.jo