العبور!

تتجاوز تداعيات ما يحدث في مصر اليوم(على إثر الإعلان الدستوري الذي يحصّن قرارات الرئيس محمد مرسي، وإقالة النائب العام، وما تبع ذلك من اعتصامات واحتجاجات وحروب شوارع بين مؤيدي الإخوان وخصومهم في عدة مدن، وإحراق مقرّات حزب الحرية والعدالة) الساحة المحلية هناك إلى العالم العربي بأسره، الذي يخوض غمار اللحظة التاريخية الراهنة نفسها.وإذا كان عنوان الصراع هو "الإعلان الدستوري"، فإنّ الموضوع الحقيقي له يتمثّل في الصراع بين القوى الإسلامية والعلمانية (سواء كانت ليبرالية أو يسارية أو قومية)، ومعها القوى المسيحية. وربما يبدو ذلك جليّاً في حالة الاصطفاف والاستقطاب القائم حالياً هناك؛ إذ يقف الإسلاميون جميعاً في خندق واحد، من أقصى الاعتدال؛ حزب الوسط وعبدالمنعم أبو الفتوح، إلى السلفيين والجماعة الإسلامية، في مقابل العلمانيين من الليبراليين؛ عمرو موسى ومحمد البرادعي وعلاء الأسواني، إلى فلول النظام السابق، في الخندق الآخر. وكلّ يبرر موقفه بالتذرع بحماية الديمقراطية والثورة! القضية ليست محصورة بالإعلان الدستوري، إذ يمكن قراءته على وجوه عدّة، لكّنها السؤال الأكثر أهمية وحساسية وخطورة في المرحلة الحالية؛ وهو سؤال دور الدين في المجال العام، أو صراع الأيديولوجيات العلمانية والإسلامية. ويتجه الجميع إلى تعميق الصراع السياسي وتأجيج المخاوف المتبادلة، بدلاً من محاولة الوصول إلى تفاهمات عميقة تجيب عن الأسئلة المهمة والحيوية، وتمنح "ضمانات" لحماية الديمقراطية وأسسها وشروط نجاحها في مواجهة محاولات الانقضاض عليها من القوى الراديكالية والمتطرفة، سواء كانت إسلامية أم علمانية!من الإسلاميين من يعلن بصراحةٍ ووضوح أنّه لا يؤمن بالنظام الديمقراطي، بل بالآليات الديمقراطية -أي فقط الانتخابات- وأنّه يسعى إلى "إقامة الدولة الإسلامية" (كما يتصورها هو بالطبع). ومن العلمانيين على الجهة الأخرى- من لا يريد رؤية الإسلاميين في المشهد، ولو قيّض له بقاء الأنظمة العفنة التي حكمت العالم العربي خلال الحقبة الماضية، لفضّل ذلك على وصول إسلاميين إلى السلطة، ويدافع اليوم عن "صيغة متطرفة" من العلمانية ضد الحركات الإسلامية.مثل هذه التوجهات المتطرفة المتبادلة إذا ما قُدّر لها أن تحكم المشهد السياسي في اللحظة الراهنة، فهي بالضرورة ستقود إلى صدامات ومناخات مأزومة، وستعطّل التحول نحو الديمقراطية المطلوبة. ولا يمكن لوم طرف واحد، فالكل شريك في الأخطاء، وتحديداً القوى المعتدلة أو البراغماتية من الطرفين، والتي كان ينبغي عليها أن تفكّر في عواقب هذا الصراع وخطورته، وتبحث عن "أرضية مشتركة" وتوافق على تقديم تنازلات، بدلاً من "ليّ ذراع" الطرف الآخر! مقارنة المشهد المصري بما يحدث في كلّ من تونس والمغرب اليوم تمنحنا أفقاً أفضل للملاحظة. ففي هاتين الدولتين، اتجه حزبا النهضة والعدالة والتنمية إلى عدم الانفراد بالسلطة، وإلى تشكيل ائتلافات واسعة وكبيرة مع القوى السياسية الأخرى. إذ في تونس لم يتعنّت "النهضويون" في جمعية كتابة الدستور، وفي المغرب لم يقفز "الحرية والعدالة" إلى تطبيق بعض أحكام الشريعة. وبرغم أنّ كلا الحزبين من مدرسة الإخوان المسلمين وامتداد لها، إلاّ أنّهما أثبتا بصورة جليّة أنّ إخوان المغرب العربي أكثر تقدماً وحنكة من إسلاميي المشرق عموماً.صحيح أنّ التيارات السلفية أعلنت الحرب السياسية على هذين الحزبين، واتّهمتهما بالتخلي عن المشروع الإسلامي، إلاّ أنّهما تمكّنا من السير السلس الهادئ نحو إنجاز التجربة الديمقراطية، بما يفيد الشعوب والمجتمعات، ويعلي الشأن الوطني على المكاسب الحزبية في "مرحلة انتقالية" حسّاسة. "العبور" من هذه اللحظة التاريخية يتطلّب قدراً كبيراً من الحكمة والتوافقية الوطنية؛ فإمّا أن ينتقل بعض الدول إلى مصاف الديمقراطية ويتجاوز الوضع الراهن المأزوم، وإمّا أن يرتد إلى أسفل سافلين؛ إلى عصور الطوائف والصراعات الداخلية والحروب الأهلية!