خبز للجميع

لمعت الفكرة في عقل شخص واحد، هو المحامي غسّان معمّر؛ أخبر بعضاً من أصدقائه بها، قبل أسابيع قليلة، وها هي اليوم مبادرة مجتمعية رائعة، بدأت تنتشر وتتطوّر، وتحفّز نحو مبادرات مماثلة.ما نتحدث عنه هو حملة "خبز للجميع". ولدينا اليوم 13 مخبزاً، و7 مخابز قيد الانضمام إلى مجموعة المخابز التي تقدّم خبزاً لمن لا يستطيع توفيره، أو يجد صعوبة بالغة في ذلك. وتقوم الحملة على آلية بسيطة، لكنها مبتكرة ومتميزة، تتمثّل في أن يتفق بعض الميسورين مع مخبز على وضع كمية من الخبز بمبلغ معين في كل يوم مجّاناً للفقراء. وبدأ الإقبال من المتطوعين الراغبين في المشاركة في الحملة يزداد، وتم إنشاء موقع إلكتروني على شبكة الإنترنت، ووضع أرقام هواتف لمن يريد المساهمة.أجمل ما في هذا الخبر، كما يحدثني صاحب الفكرة الصديق غسان معمّر، أنّ الإقبال على التبرع والتفاعل زاد مع رفع الأسعار، وأنّ المواطنين الذين يقومون بشراء الخبز عندما يلتفتون إلى الرفوف الخاصة بالحملة يقومون بدورهم بالتبرع لزيادة حجم الكمية. والأهم من هذا وذاك أنّ الحملة أصبحت معروفة لدى الفقراء والمحتاجين، وبدأوا بالحصول على الخبز، والكميات المخصصة تنفد.الآن، ثمة مخابز تنضم للحملة في أحياء متعددة من عمان إلى العقبة. ويخطّط أصحاب الفكرة لأن تكون عمّان أول مدينة في العالم تقدّم الخبز مجّاناً للفقراء، بطريقة كريمة، بالرغم من انتقاد البعض للفكرة بوصفها تكريساً "للتسول". وأنا بصراحة لا أتفق مع هذا الرأي، بل هي أسلوب حضاري، لا يستدعي الوقوف على أبواب المخابز أو الدوائر؛ إذ يأخذ الشخص حصته في أي وقت كان، وهي حل جزئي إلى أن تتحسن الظروف الاقتصادية والمالية.أهمية المبادرة أن أبعادها لا تقف عند حدود تأمين رغيف الخبز للمحتاجين، بل في انتشار "العدوى"؛ وهو ما تبدو إرهاصاته في الخبر المنشور على موقع "خبرني نيوز" أمس حول إعلان مجموعة من النشطاء مبادرة تأمين "جرّة غاز" للجميع في محافظة إربد. وهي مبادرة صغيرة، لكنها جميلة في معانيها.ما نتوقعه هو أن تلتقط المؤسسات الكبيرة والأغنياء مثل هذا السلوك الأخلاقي والاجتماعي الإيجابي، وتحوّل الأفكار الصغيرة إلى مبادرات كبيرة عبر وجود من يتبنّاها، فنكون قد قطعنا شوطاً جيّداً في تكريس مفهوم المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية للشركات والقطاع الخاص، وهي المسؤولية التي ما تزال غير واضحة لهذا القطاع الحيوي، ولا حتى للطبقة الثرية التي تعيش في ظروف اجتماعية واقتصادية تفوق الدول المتقدّمة.فكرة هذه المبادرة تضرب على وتر حسّاس ومهم، وهو الفجوة الطبقية المتنامية. فالمشكلة ليست في الفقر والبطالة فقط، ولا بالضربات القاسية التي تلقّتها العلاقة بين الدولة والمجتمع خلال السنوات الأخيرة، وفقدان الثقة والمصداقية، بل جزء حيوي من المشكلة يتمثّل في تضعضع رأس المال الاجتماعي، وضمور حسّ التكافل الاجتماعي لدى شريحة من المجتمع؛ لو رصدنا حجم الهدر في النفقات والمبالغة في الحياة المترفة لديها، من سيارات فارهة لا تجد مثيلاً لها في أفضل عواصم العالم، وقصور مبالغ في فخامتها، ومستوى حياة يتجاوز أثرياء العالم المتقدم، فإنّ جزءاً بسيطاً من هذه النفقات كان سيتكفل بتدريس طلبة فقراء أو تأمين سلع وخدمات أساسية.. إلخ.بالطبع، لا نصادر على حق هذه الطبقة في الحياة التي تريدها، وفي حريتها الاجتماعية والمالية، لكن ما نتحدث عنه هنا حصرياً هو مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وخطورة تنامي مشاعر "الحرمان الاجتماعي"، في وقت نرى فيه الظروف الاقتصادية والاجتماعية تعصر طبقة واسعة من المجتمع!