الشعوب لا تُهزم

لمن يعنيهم الأمر ، فهذه حقيقة أزلية وقاعدة ذهبية أدركها كثيرون ، ولا زالت عند آخرين موضع شك ، أو لا يعترفوا بها أصلا . فالسباحة ضد التيّار حُمْق . ومناطحة الصّخر مؤذي .
فمنهم من أدركها وسلّم بها بالتجربة ولكن بعد ويلات وخسائر ودمار وطول عناء ، فكان من الأشقياء الذين وُعِظوا بأنفسهم ولكن بعد خراب المعبد .
ومنهم من حاول ولكنه تراجع في البدايات ورضي من الغنيمةِ بالإياب ، فأراح واستراح .
ومنهم من كان من السُّعداء الذين وُعِظوا بغيرهم ،
ولكن جنون القوّة غالبا يُغري ، والغطرسة وادّعاء العظمة دائما تُنسي . ووسوسة الشياطين تُزيّن .
واسألوا التاريخ ، فالتاريخ لا يُحابي ولا يرحم ، وفيه عبرة لمن أراد أن يعتبر .
فبريطانيا العظمى لم يًصبها فجأة كرمٌ حاتميّ كي تتخلى عن مستعمراتها ، لتتحوّل من إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس إلى جزيرة منغلقة على نفسها تلملم جراحها .
وفرنسا التي استعمرت نصف إفريقيا ومناطق أخرى كثيرة ، لم تخرج منها خاصّة الجزائر التي اعتبرتها جزءا منها بسبب نوبة ٍأخلاقيّةٍ هبطت عليها .
وأمريكا غادرت فيتنام تجر خيباتها ، ولم تستطع البقاء في الصومال بمواجهة حُفاةٍ جياع بإمكانات محدودة وإرادة بلا حدود ، وكذا فعلت في العراق وكانت قد جاءت لتبقى .
لقد حاولوا إخضاع غزة أكثر من مرّة وبأكثر من طريقة . ففشلوا فيها جميعا ، وسيفشلون دائما .
فقد حاولوا ابتلاعها ، فوجدوها عصيّة على الهضم ، وسبّبت لهم ورما في جهازهم الهضمي ، اضطرّهم لأجراء جراحة عاجلة لإخراجها فإحراجها . وتمنّوا لو غرقت في البحر وابتلعها بعد أن فشلوا هم .
حاولوا إغراقها بالفوضى والمشاكل ، بالبطالة والفقر ، بالنزاعات الاجتماعية والفصائليّة المختلفة ، فأصبحت أكثر هدوءا وانسجاما من سواها .
جرّبوا أسلوب الخنق والموت البطيء في حصارٍ مُحكم طال كل شيء ، من حبّة الدواء إلى حركة الأفراد . أبدع الغزّيون في مواجهته والتّغلّب عليه وتمكنوا من توفير ما يُديمون فيه حياتهم واستمرار عنادهم .
إنها نفس المعادلة الجديدة القديمة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ... ولا يريدون .
إنها معادلة الكف والمخرز ، الألم والصّبر ،السيف والدم ، الهراوة والإرادة ، السلاح والشهادة ...
فهل يعلم هؤلاء أن المعادلة السابقة لها نتيجة واحدة دائما ، مهما تغيرت الأماكن والأزمان والظروف .
فالمنتصر دائما هو الإنسان صاحب الحق المؤمن بمستقبله الواثق بإرادته ... والنتيجة إما نصر يسرُّ الصّديق وإمّا شهادةٌ تغيظ العدا ، فالشهادة هي انتصارٌ بتفوّق ، فالشعوب لا تُهزم .
أردتُ الحديث عن غزة وملحمتها ، ثم تشعّب بنا الكلام . فالحديث دائما ذو شجون .