قناديل غزة

التي تأبى وتصر على أن لا يشتعل فتيلها بغير الدم الذي أصبح زيتها ، فلا شمس ولا قمر ، ولا ليل ولا نهار في غزة بغير الدم ، هذا هو قرارها المؤمن بقدرها المكتوب ، فعجلة الحياة لا تدور بغير الدماء ، تنام وتصحو على الدماء ، وعند الولادة دم ، وعند الشهادة لا بد وأن يفيض النهر من كثرة الدماء ، الشروق فيها دم والغروب كذلك ، خبزها دم ، ماءها دم ، والهواء فيها فاسد حتى يتعطر برائحة الدم ، والكحل في عيون رجالها دم ، وحرائرها لا يتجملن إلا بحضور الدم ، هذه هي غزة ، ثلاثة حروف والدم حرفان ، والناتج كرامة وكبرياء وجباه عالية لا تعرف أن تركع وتسجد لغير الله ، والناتج أيضاً مقاومة نتوحد حول بندقيتها ورصاصها الذي لا يزغرد بغير البسملة والدم . 
الشهداء في السماء قناديل تغار منها النجوم ، وعلى الأرض مشاعل تنحني لنورها كل مولدات الطاقة الحديثة ، ماذا يمكن لنا أن نكتب ؟ ونحن نشاهد الأجنة في الأرحام وهي تتحول من لحظة التكوين إلى مشاريع شهادة ، فالتكوين الإنساني يظل ناقصاً ولا يكتمل حتى يحصل على هوية الشهادة ، فعلى أرض غزة تتوحد الأسماء وتتساوى كل الأعمار لأن القاسم المشترك هو الدم وقدر الإستشهاد الذي لا يستطيع أحد الفرار من مواجهته وملاقاته ، من السماء ومن البحر وعلى الأرض ، طائرة وبارجة ودبابة لا ترسل لهم سوى هدايا القتل وقرار الفوز بالشهادة !.
الشهادة هناك فوق رمالها هي خيط من دم ولا يراد له أن ينقطع أبدا ، وفي المرة السابقة قال القتلة من بني صهيون عنها أنها ستكون " عناقيد الغضب " فردت عليهم بل هى " جهاد الفرقان " ، واليوم أطلقوا عليها " عمود الغيم " فقالت بل هي " حجارة السجيل " التي ستنزل فوق رؤوسكم يا سفلة التاريخ و يا أعداء البشرية والإنسان ، فالموت والقتل الذي تريدون أن تزرعوه سنحصد من ثماره الحياة ، وهذا هو التحدي بيننا وبينكم ، فأنتم كالجرذان تختبئون ، ونحن بكل العنفوان فوق سطحها ماضون ، لن ترهبونا ولا بد أن تنتصر إرادة القتال التي نحملها سلاحا على كل بطشكم وجبروتكم .
ولأن الوفاء والعهد هو شيمة الرجال الصادقين جاءت اللحظة التي ارتقى فيها الدم مجددا نحو السماء وجنات النعيم ، فقد جاءت لحظة الرحيل التي وقع فيها الإختيارعلى الشهيد البطل أحمد الجعبري ومرافقه الشهيد محمد الهمص ، العالم كله رأي مشهد التفجير للسيارة التي كان يستقلها الشهيدان ، سيارة في داخل دائرة صهيونية رصدتها طائرة جبانة ، فالجبناء الصهاينة يخافون من المواجهة المباشرة مع الأبطال الصناديد لذلك يلجأون لعمليات القتل والإغتيال وعن بعد يصل إلى آلاف الأمتار ، وهكذا وفي لحظة زمنية فارقة يعود الدم ليتحكم بالقرار وعلى كل الصعد والمستويات .
في لحظة أيضا ، رحل الخلاف والإنقسام ، وتراجعت لغة الإتهامات المتبادلة بين الأشقاء وانتقل الجميع ومن كل الأطراف إلى غرفة العمليات المشتركة ، فالدم يفرض نفسه فوق كل الأشياء ، هذا الدم الذي ينحني له كل الشرفاء والأحرار لأن الجباه تحمر خجلا منه وفي حضرته ، وهكذا فقد قرر الدم الفلسطيني الغزاوي الطاهر الذي سال من الجعبري والهمص وكل الشهداء بأن " إسرائيل " سوف تشتعل وكل الخيارات ستكون مفتوحة ، وصدحت حناجر رجال المقاومة بكلمة واحدة مفادها بأن على الإحتلال أن يستعيد ليعيش أياما من جهنم وأن عليه أن يستعد لتقبل التعازي في الكنيست الصهيوني ليل نهار . 
مساجد القطاع التي لا يتوقف التكبير فيها سارعت إلى نعي الشهيد القائد ومرافقه البطل الذي ما كان ليقبل بغير هذا الرحيل المشرف فهما جسدان في روح واحدة ، والمقاومة التي استوعبت الصدمة ، أعلنت بكل هدوء النفير في صفوفها ، وراحت منذ اللحظة الأولى تطلق صورايخها كرد أولي على عملية الإغتيال الجبانة ، هذه صفحات المجد التي لن تغلق أبدا حتى يتم كنس هذا العدو الجبان ودحره عن كل أرض الوطن الفلسطيني ، فلا غزة ولا ضفة بعد اليوم ، وكل من يتعامل مع هذه الأسماء مشبوه ومدان وخارج عن الصف الوطني ، فالوطن واحد ، والتراب والشجر واحد ، والإنسان الفلسطيني لن يتجزأ ولن ينقسم ، ولا شيء يعيد لنا وحدتنا وكرامتنا إلا فعلنا المقاوم وسلاحنا ورصاصنا ولحمنا ودمنا .
العملية لا تزال تتواصل ، وكل ما خطط له المجرم القاتل نتنياهو والعاهر ليبرمان بدأ ينقلب على رؤوسهم ، وكل الجنوب الفلسطيني أصبح في مرمى دائرة صواريخ المقاومة ، وأغلب ساكنيه من الصهاينة بدأوا في الهروب نحو الشمال ،والشلل بدأ يلف كل مظاهر الحياة عندهم ، وها هي دباباتهم التي حشدونها على حدود القطاع تخاف وتهاب من الدخول إلى تراب غزة المقدس لأنها لا تعلم ماذا ينتظرها من مفاجآت .
هم يريدون لهذه العملية الإجرامية أن تمتد لسبعة أسابيع ، و نحن نقول لهم فلتكن سبعون عاماً ، فلا تراجع ، و لن نتوقف ، ولن يثنينا شئ عن مواصلة المقاومة و الجهاد حتى يزول الإحتلال العنصري و البغيض ، هذا هو العنوان الأهم و الرئيسي ، و ما يجر اليوم ليس إلا جولة من جولات قادمة ، فهذا صراع الوجود بيننا و بينكم و لن نسمح له أن يتحول إلى نزاع على الحدود ، فما أروعه من جهاد حين يكون محمياً بوحدتنا الوطنية ، و بالهدف الذي يلتقي عليه الجميع ، هنيئاً لهذا الشعب الذي يقاتل بالنيابة عن كل العالم ضد قردة و خنازير هذا العصر ، ومباركٌ لهذا الدم الذي يتدخل دائماً فيعيد البوصلة إلى شمالها الصحيح .
د.امديرس القادري