فاتورة الفساد، فاتورة التجاهل


في إحصائية أجريتها لشعارات وأهازيج الحراك الشعبي الأردني منذ مطلع 2011، وجدتُ أن حوالي 80 بالمئة منها يدور حول : استئصال الفساد ومحاسبة الفاسدين، ومراجعة الخصخصة، واسترداد أموال وعقارات الخزينة المسلوبة، والانفاق الترفي، والتفاوت الاجتماعي، والبطالة الخ. أما الشعارات المتعلقة بالإصلاح السياسي والتعديلات الدستورية وقانون الانتخاب الخ فجاءت، بالمرتبة الثانية، بنسبة 17 بالمئة، والشعارات القومية بنسبة 3 بالمئة. يشير ذلك إلى ترسّخ وعي جماعي لدى الأردنيين بأنهم يسددون، من مستوى معيشتهم وأمن أسرهم ومستقبل أبنائهم، فاتورة الفساد والخصخصة والهدر والامتيازات. فهذه ـ وليس فاتورة الدعم ـ هي المسؤولة عن أزمة المالية العامة، وعن عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية نحو المواطنين المفقَرين الذين يتعايشون، حانقين، مع اقتصاد غير عادل يسمح للأقلية بالإثراء على حساب الدولة والمجتمع. تَجاهلَ الحكم، كليا، المطلبَ الشعبي الأساسي الذي تركّز على ضرب مؤسسة الفساد ومراجعة النهج النيوليبرالي برمته، بل واستطاع مستخدما كل الوسائل، تغييب هذا المطلب الجوهري عن المشهد، ومن ثم تناسي القضية الاجتماعية، ليتمحور الصراع، بين الدولة والإخوان، حول النظام الانتخابي والتعديلات الدستورية، أي حول المسألتين اللتين تحتلان الصدارة في الأجندة الإخوانية الطامحة إلى أغلبية برلمانية وحكومة ذات صلاحيات. ما الذي ستفعله مثل هذه الحكومة؟ لا شيء غير ما فعلته حكومة عبدالله النسور، أي تحرير أسعار الطاقة ـ وسواها ـ في إطار النهج الاقتصادي النيوليبرالي نفسه؛ إنما، حسب زكي بني رشيد، بقدرة لا تتوفر إلا للحكومات المنتخبة على ضبط الشارع كما هو الحال في المغرب ومصر. بالمحصلة، خاض طرفا الثنائية (الدولة والإخوان) الصراع على الخلفية نفسها؛ ألّح الطرف الأول على تأبيد النهج النيوليبرالي وطي ملفات الفساد، والذهاب إلى انتخابات عامة، قاطعها الطرف الثاني لفرض شروطه السياسية، ولكن متجاهلا شروط الشعب الاجتماعية، بينما اتجهت قوى وطنية وتقدمية للانخراط في العملية الانتخابية لكي تكون هي ساحة الصراع ، الآمن وطنيا، حول النهج الاقتصادي والمالي وفتح ملفات الفساد الخ ، هكذا كان المشهد الأردني قبيل القرار الحكومي برفع أسعار المشتقات النفطية. وقد سقط المشهد كله، خلال دقائق، بعد صدوره، وانفجرت سنتان من التعقّل الوطني الهادف إلى التوصل إلى حل توافقي لمعالجة ملفات الفساد واستعادة القطاع العام، وصار على الدولة أن تسدد فاتورة تجاهل الإرادة الشعبية والعجز عن فهم ديناميات الصراع المفتوح في البلاد. تدرك الكتلة الشعبية الكبيرة المتحركة، حجم وقسوة أزمة المالية العامة، ولكنها تربط، ربطا محكما، بينها وبين الفساد والخصخصة وامتيازات الفئات الرأسمالية والحاكمة؛ ولذلك، فإن مطالبة الشعب بتحمّل الأعباء لم تعد ممكنة من دون البتّ، أولا، في هذين الملفين. وهو ما لم يدركه النسور الذي ظنّ، واهما، أنه " يستطيع"، فقاد الموكب كله نحو الاصطدام بالجدار. المفارقة تكمن في الإصرار الرسمي على التجاهل وعدم الفهم؛ فوزير الداخلية، يناشد "الإخوان"، تهدئة الشارع، وكأن الجماهير تحت تصرفهم! ومدير الأمن العام يحمّل أطرافا خارجية، مسؤولية التحريض على الأحداث والخروقات الأمنية. وبينما تنتشر الفوضى في البلاد، ما يزال التركيز الأمني ينصب على منع قيام اعتصام مفتوح في عمان، وما تزال الحكومة تتوهم أنها " تستطيع" استيعاب ردود الفعل، بل وربما تفكر أذكى الأطراف في الدولة، بتجاوز المأزق من خلال تعديلات ترضي " الإخوان" في النظام الانتخابي! وذلك، في سياق الاستجابة للمطلب الأميركي العلني بـ" توسيع العملية السياسية"!الأميركيون ليسوا أغبياء جدا؛ إنهم يدعمون الرؤية الإخوانية والليبرالية في التوصل إلى حل سياسي " ديموقراطي" مع الإبقاء على النهج الاقتصادي المتوحش نفسه، لأنها تتطابق، بالضبط، مع رؤيتهم. لكن أغلبية الأردنيين خرجت، بالفعل، من صندوق الحاوي هذا. فلا حل للأزمة الأردنية إلا الحل الاجتماعي: ضرب الفساد والتراجع عن الخصخصة وحرية السوق وامتيازات النخب، وفرض نظام ضريبي تصاعدي، والشروع في خطة تنموية وطنية وشعبية، يقودها القطاع العام .