التدخين ومنعه بصفته اختباراً لسلطة الدولة

يشكل قانون منع التدخين في الأماكن العامة مادة إضافية للانقسام العمودي في لبنان، وفرصة إضافية للتراشق الطائفي متجاوزاً بذلك كل منطق اقتصادي او صحي. فتحول منع التدخين قضية وطنية محورية تعني حياة آلاف المواطنين ليس من باب الحفاظ عليها، وإنما من باب قطع ارزاق عاملين في القطاع السياحي بحجة تطبيق قانون الحظر. فاللبنانيون الذين لم يتظاهروا احتجاجاً على غلاء المعيشة والتلاعب بأسعار السلع ومدة صلاحياتها وارتفاع أسعار المحروقات ونسب البطالة، والذين لم يعنِهم ان ينظموا وقفات احتجاجات على تدهور الوضع الامني والسياسي، تراهم اليوم ينزلون الى الشوارع لوقف أول قانون عصري في بلد تعود غالبية قوانينه لحقبة الانتداب. وقد هدد هؤلاء بالتصعيد و «مقاطعة» القانون ملوحين بتقاسم الغرامات المالية المترتبة على ذلك.

وإذ تجهد الحكومات ووسائل الإعلام في العالم للتوعية بمضار التدخين، ينعكس الامر في لبنان حيث تختلط الوقائع والارقام بالحملات السياسية والاعلامية المضللة لتنصب التوعية على مضار منع التدخين. ويشترك في ذلك اصحاب المطاعم والفنادق وعمالهم وموظفوهم، ولكنْ أيضاً وزير السياحة الذي لا يتوانى عن إدراج قانون الحظر ضمن اسباب تراجع القطاع السياحي في لبنان. هو الوزير نفسه الذي خرج علينا مطلع الصيف المنصرم يزعم أن السياحة بألف خير لأن حجوزات الفنادق مكتملة... بفضل النازحين السوريين!

وعوضاً عن البحث الجدي في الازمة الاقتصادية والسياسية التي يعيشها لبنان، والتفكير ملياً في ايجاد حلول لهروب رؤوس الاموال وهجرة المهنيين وشلل قطاعات خدماتية بكاملها تؤثر على المواطن المقيم قبل السائح، يطيب للوزراء تمضية الوقت برفع قضية على فيلم أميركي مسيء لصورة لبنان، أو وقف قانون يسحب من بلدهم لقب «جنة المدخنين».

واللافت في ذلك «السعي المطلبي» إذا صح التعبير، البعد الطائفي - السياسي الكامن فيه. ذاك ان الحجة الاساسية التي تساق لمعاداة القانون هي أن الدولة اللبنانية غير قادرة على فرضه في «الجزر الأمنية»، أي الضاحية الجنوبية ومناطق نفوذ «حزب الله»، لكنها في المقابل تتشدد في تطبيقه في مناطق السهر ومقاهي النراجيل حيث يختلف النسيج الطائفي ووزنه السياسي.

وهذا ليس سراً. فقانون من هذا النوع الذي قد يبدو بسيطاً للوهلة الاولى، قادر على كشف العجز الفعلي للدولة والعفن الذي تسرب الى مفاصلها بحيث يصبح المطلب العام هو تحويل الشواذ قاعدة. والى ذلك، يكرس هذا الامر اسلوباً في تعامل الافراد مع دولتهم وكيفية مقاربتهم لقوانينها، بحيث يصبح متاحاً أيضاً ومقبولاً ان يهدد صاحب مقهى بـ «مقاطعة» القانون، وكأنه مسألة حرية شخصية.

... لكنه في لبنان كذلك. فأي قانون مدني يعتمد على رغبة الفرد بالالتزام به، وهي غالباً منعدمة. وبهذا فإن قانون منع التدخين مثله مثل حظر الكسارات، أو مخالفات البناء، أو جباية الرسوم والضرائب المحجوبة عن خزينة الدولة في بعض المحميات أو حتى قانون السير الذي يعتبر مسألة «ذوق وأخلاق». لذا، وفق المنطق نفسه، يصبح مقبولاً ان تُكف يد وزراة السياحة عن قلعة بعلبك، ويعتمد القطاع في ازدهاره على التدخين وتوافد اللاجئين.