تحصين الطبقة الوسطى
كثيرون، ومنذ سنوات، يحاولون التشبث بما تبقى لهم من أدوات محدودة للبقاء ضمن الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، بعد أن عانى هؤلاء وما يزالون من برامج التصحيح منذ نهاية الثمانينيات، ومن كل سياسات الإفقارالتي طبقتها الحكومات المتعاقبة.
معاناة هذه الشريحة تعمّقت نتيجة ضعف برامج الحماية الاجتماعية التي طالما أُدرجت مخصصاتها في الموازنات العامة، ولكنها لم تستهدف أبناء الطبقة الوسطى، بل تخلت عنهم وركزت على من انزلق منهم إلى ما دون "الوسطى"، ومن صار في مصاف الفقراء.
إذا صدقت التوقعات بأن قررت حكومة عبدالله النسور أو التي سترثها بعد عدة أشهر، التخلي الكامل عن سياسة دعم السلع، وتوجيهه لمستحقيه، فإن هذه الطبقة معرضة لضربة جديدة، ربما تكون القاضية. الخطورة أن برنامج الحماية الذي تفكر فيه الحكومة لن يستهدف هذه الفئة التي تراجعت أحوالها إلى درجة صار من الصعب معها التفريق بين الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة بسهولة، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها بطء نمو المداخيل، وزيادة تكاليف المعيشة بشكل مطرد، خصوصا وأن عمان تعد، وفق بعض الدراسات، من أغلى العواصم.
وفقا لمخطط الحكومة واتفاقها مع صندوق النقد الدولي الذي يفرض جدولا زمنيا بحسب ما تسرب من معلومات، فإن أسعار الغاز والخبز والكهرباء والبنزين ستزيد. وكل الخطوات الحمائية والاستباقية للحكومة لن تتجاوز دعما نقديا يصل مقداره 50 دينارا يكفي للحماية من العوز، بيد أنه لن يجدي في حماية الطبقة الوسطى.
تعويض الفقراء سهل، وبحاجة إلى دعم يكفيهم كفاف يومهم، بينما الحفاظ على الطبقة الوسطى أصعب، وبحاجة إلى أكثر من ذلك بكثير. فالمستوى المعيشي لهذه الفئة يختلف كثيرا عن الفقراء والمعوزين. قد يحاججك مسؤول بالقول: إن واجبات ومسؤوليات الدولة لا تفرض عليها دعم الطبقة الوسطى. وفي ذلك شطط كبير، كونه يُسقط أهمية هذه الطبقة في تطور المجتمع، ودورها في إحداث التغيير الإيجابي في البلد.
وإسقاط هذه النقطة من الحسابات يعني، بكل بساطة، أن شريحة الفقراء ومحدودي الدخل ستزيد، وما تبقى من الطبقة الوسطى سيكون مصيره مهددا بالزوال؛ فهل هذا ما نريده لبلدنا الذي ظل معظم سكانه حتى نهاية الثمانينيات من أبناء الطبقة الوسطى؟!
ثم، ألم تحسب الحكومات حساب تأثير زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والخلل الكبير الذي ستحدثه سياساتها على تركيبة الطبقات الاجتماعية في المجتمع؟ وهل نسيت، أو تناست أن التطور والبناء الذي شهده البلد اعتمد على سواعد الطبقة الوسطى في الماضي، فمن سيبني في المستقبل؟
الطبقة الوسطى، وبعيدا عن القرارات الصعبة، تعاني الأمرّين نتيجة تراجع معدلات النمو، وارتفاع معدلات التضخم، وتراجع قدرة الاقتصاد على خلق فرص العمل؛ فكيف سيكون حالها في ظل تطبيق مثل هذه السياسات؟!
الحفاظ على الأمن المجتمعي، ووضع حدود لتنامي المزاج السيئ بين الأردنيين، يقتضيان حكمة أكثر من الاندفاع في تطبيق برنامج التصحيح، ويتطلبان أيضا وضع خطة لإسعاف قلب الطبقة الوسطى الذي يوشك على التوقف، خشية من ارتفاعات جديدة على الأسعار تهدد مصير أبنائها. سنفترض أن الدخل الشهري لأسرة ما يصل إلى 1000 دينار، وتحصل على دعم مالي ترى الحكومة أنها لا تستحقه، وتكون بذلك استفادت من دعم الخبز والكهرباء والغاز والبنزين؛ وبافتراض أن مقدار ما تدعمه الحكومة يصل إلى 200 دينار، يتوزع بين هذه السلع؛ فهل فكرت الحكومة كيف ستمسي حياة هذه الأسرة بعد رفع الدعم عنها، وهل ستتمكن من البقاء ضمن الطبقة الوسطى؟
الدعم تشوه، والتخلص منه ضرورة، لكن بدون استعجال؛ بحيث يتم قبل الإقدام على التطبيق وضع استراتيجية لحماية الفقراء، وأخرى لتحصين الطبقة الوسطى من القرارات التي ستقدم عليها الحكومات مستقبلا.
الأحوال الاقتصادية دفعت كثيرين للخروج إلى الشارع احتجاجا، وحياة الفرد وعيشه أكثر حساسية بالنسبة لهؤلاء من قانون انتخاب غير توافقي، وتعديلات دستورية، وهنا مكمن الخطر.