صدى حديث الأمير في جمعية عيبال

من حيث أن الكلام عن زمن الوحدة والدولة والناس الذين بذلوا وأعطوا ينتسب لزمن جميل، -وهو حديث مُفكر به- تحدث الأمير الحسن في جمعية عيبال، أيضا عن المستقبل، منطلقا من الماضي، الذي لا يمكن تجاوزه، وهو الشاهد الأكثر ضبطا في الذاكرة، لمصائر الوحدة وما جاء بعدها من قرارات ومشاريع، ونهايات كنا لا نبغي الذهاب إليها، أو أخذت اليوم مسمياتها، فلدينا منها فك الارتباط ووادي عربة وأوسلو، وكذلك لدينا أيلول أيضا. وللأمير جهده العظيم في كتابه البحثي حق الفلسطينيين في تقرير المصير، ولعدنان البخيت الفضل في كتابة تاريخ القدس وفلسطين أكثر من كل أهل فلسطين.
والحديث حين يصدر من الأمير محذرا من نهايات آمال الفلسطينيين بحل الدولتين فقد سبقه الفلسطينيون أنفسهم، عندما نادت بعض قياداتهم بإسقاط أوسلو، وكذلك الحال مع الأردنيين الذين تكرر شعار إسقاط مدريد ومخلفاته مرارا عبر مسيراتهم المتكررة.
ومع أن الأمير الحسن يقدم نفسه مواطنا وأخا وابن بلد وهاشميا عربيا، له من الحق الاختلاف مع البعض، ويقبل بخلاف الآخر معه، إلا أن البعض يريدون إسقاط أفكارهم على أفكار يطرحها، لأنهم يخطئون بالتفسير، فإن ذلك ما يجعل الظن في كلامهم، حاضرا، وهو يرقى إلى حد إثم القراءة.
فالرجل لا يريد دوراً ولا يبحث عن مجدٍ، ولكنه يُصر على أن الحكم في الأردن ملتصق بناس الأرض وأهلها ويشاركهم الهموم، يعرف جيدا الإكراهات التي تجعل البعض يرون بأنفسهم «نيابة عامة» عن الهوية الوطنية.
وفي الأردن من الاختلاف والخلاف ما هو اكبر من الحصر، في التفسير والرد على كلام قيل في مجلس عائلي أو بين مجموعة، وهو ما يوجب التذكير لتلك النخب التي تتلقف الكلام بأن الكلام على الكلام يظل مجرد كلام.
فالناس لا يهتمون بالحديث عن المفاعل النووي أو دسترة فك الارتباط أو الحقوق المنقوصة، أو مصير مدريد بقدر ما هم منشغلون بتعليم أبنائهم، وقوتهم وكرامة عيشهم، والحمد لله أن اهتمام الأردني بتعليم أولاده يفوق كل اهتمام، لأنه لو رهن مآله بالتفكير بالنيابة عنه، من قبل نخب حالمة، لكنا اليوم في جهالة كبيرة. لذلك كان من أبرِّ فضائل الحكم في الأردن أن عنى ببناء الفرد، والمواطن، وليس التابع.
في مقابل حديث أهل عيبال، ورموزها، عن أنهم مواطنون صالحون، التقط الأمير المسار للحديث، فتحدث عن المقاربة التعاقدية للعلاقة الأردنية الفلسطينية، وعن زمن جميل بذل فيه رجال نابلس من اجل وطن لا يراه الحسن مكتملا إلا في لحظات جميلة من ذاكرته وفي آمال أبنائه وأحلامهم بالوطن الأردني الراهن، وفي الحاضر الذي يمضي به الأردنيون مع ملكهم نحو أفق سياسي جديد.
والحسن الذي وصف من قبل دينس روس بأنه متعنت في مسائل الحق الأردني، يعرف معنى السلام الهش الذي تحقق، وأخطاء أهل القضية، ولزومية الحل النهائي لهم ولنا، وتعنت العدو تجاهه.
وهو حين يقرر التواصل مع الناس، فإنه لا يريد أن يكون واعظا أخلاقيا، بل ذكّر في ديوان أبناء الطفيلة بالخلق الأردني وبناء الدولة، وهو الذي التأم حوله كل المفكرين العرب في منتدى الفكر العربي، وبعضهم من هنا كان يناضل لأجل وطنه، فهو أيضا كأمير من الأردنيين يبحث عن الخلق الأردني وعن الوجوه التي ما تبدلت، ولكنها اليوم غابت عن الحضور، وكأنه يريد أن يعيد الروح من جديد للكبار من جيله ممن وعوا تحديات هذا البلد وهتفوا وزغردوا ذات مساء يوم بلغوا بأنهم سينتقلون للقتال في باب الواد واللطرون، حدث ذلك مع الحاج إسماعيل السعودي ورفاقه وهو ما يزال يذكر ذلك بدقة. والحسن الذي يدرك معاني التحول الديمقراطي، ويعي معنى الاستتباع للمركز، خطورة النضوب للوجوه العقلانية وانكفائها، وهو إن قصدها في الحديث والنقاش، فإنه يقصد ذاكرة وحاضر يملأه الأردنيون حرية، ولا يُمنع فيه احد من القول. وهو إن مضى للتواصل مع الناس، ليس تحت تأثير غواية الكلام، بل هو يصلهم في سياق مسار طويل ممتد من زمن الملك المؤسس فالحسين الباني، ومستمر اليوم مع الملك عبدالله الثاني الذي لا ينقطع عن الناس، ويسمع في لقاءاته من النقاش والجدل والآراء والاختلاف معه، بما يجعلنا دوما نتذكر أن الحكم في الأردن هو آخر عنقود الحرية العربية التي بدأت مسيرتها قبل قرن.
أما أن يصل الأمير أصدقاءه، فذلك لأنه من سلالة حكم، لم تسكن قمة الجبل وظلت عليه، بل لأنها صاهرت وعايشت الناس، وغنت معهم واقترضت منهم في زمن العسر، وبنت معهم من الوشائج والصلات، وله أي الأمير سفر من المودّات، ما يجعله كبيرا بين أهله أينما كان.