المعارضة السوريّة الداخليّة: عندما يحتضنُ الديك بيضَ النّسر!
ليستْ الأنظمة التي تأتي عبرَ الانتخاب الحرّ هي الأنظمة الأكثر ديمقراطيةً لكنها - بتقديرنا - الأنظمة الأقل كلفةً على الصعيد البشري والمادي لكون الحكّام يأتون عبر صناديق الاقتراع وليس بواسطة صناديق الأسلحة، فصناديق الاقتراع تُشكّل ضمانة قوية لتأسيس دولة القانون شرطَ أن تُركّز الأحزاب السياسية المنخرطة في لعبة المعارضة والموالاة على صياغة برامجها وطروحاتها السياسية على أسسِ القانون، فقوننة العمل السياسي تحمي القائمين عليه من الخلط بين الطرح السياسي، من جهة، و«التهويمات التعبوية» التي لها سمة الشعوذة، من جهة أخرى. هذا الخلط أخشى أنه باتَ سمة «تمييز» أداء وبرامج عمل أغلبية أحزاب المعارضة الداخلية لكونها - على ما يبدو- تعوّل على عاطفة المواطن السوري أكثر من عقله في إدارة لعبتها السياسية، أمرٌ كهذا - وكما تبيّنُ تجربةُ الحكم في أغلبية دول العالم الثالث - كان وراءَ وصول العديد من القادة إلى القصور الرئاسية لكن ليشغلوها كملاك وليس كمستأجرين.
الأزمة: تفريخ
وإعادة تأهيل حركات وأحزاب
شهدتْ السنة والأشهر الثمانية من عُمر الأزمة السورية نشوء أو إعادة تأهيل لحوالي خمسينَ حركةً وحزباً معارضاً تسعى مجتمعةً اليوم لتأليف كتلة واحدة تشكل محاوراً رسمياً للنظام القائم. نظرياً تبدو البادرة إيجابية لأنه في أدبيات الدول الديمقراطية وجود المعارضة هو وحده الذي يمنح الشرعية لنظام الحكم القائم، ولما كانت الشرعيّة بحد ذاتها مصطلحاً قانونياً محضاً كان من الأهمية بمكانْ أن تسعى الأحزاب الطامحة لتداول السلطة لتأسيس برامجها وطروحاتها على قواعد القانون لتتيح للناخب أن يحكم على مصداقيتها باستخدام عقله فيقبل هذا البرنامج أو ذاك الطرح إذا وجده قانونياً وإلا يرفضه، خارج هذا الإطار تبدو المعارضة «معارضة» بمقدار ما تبدو الموسيقا العسكرية «موسيقا». هذه الحقيقة تعيها الأحزاب في الديمقراطيات الراسخة لذلك تراهم يحيطونَ ساستهم برجال القانون كي لا يصبّوا - بقصد أو من دون قصد - المياه في طواحين الخصم، فهم يدركون أن معارضةً تدير ظهرها للقانون - جهلاً أو استكباراً - هي كديكٍ يحتضنُ بيضَ النسر فما إن يفقس البيض حتى ينتهي الديك بالمعدة الخاوية لصغار النسور ولنا في الخروقات الدستورية التي يرتكبها الرئيس محمد مرسي (إقالة النائب العام التي لا تدخل باختصاصات الرئيس، رفضه لقرار المحكمة الدستورية القاضي بحل المجلس النيابي لعدم دستوريته) والهيجان الشعبي ضدها خيرُ دليل.
إنَّ الشعبية التي يحظى بها العديد من فروعِ معارضة الداخل تبدو اليوم ناشئة عنْ موقفها السياسي من الأزمة أكثر من كونها ناشئة عن قدرة برامجها على الاستقطاب. باختصار، شعبية المعارضة اليوم قائمة - بتقديرنا - على ركنين أساسيين الأول هو هالة «التاب» التي أحاطتْ بها خلال سنوات الحظر ومازال لها سحرها لدى شريحة «كل ممنوع مرغوب»، هذا السحر ليس من السياسة بشيء، فما إن يزول حتى تقتصر الساحة السياسية السورية على الأحزاب القادرة على ترجمة برامجها السياسية إلى قوانين يسمعُ الناس رنينها في جيوبهم. الركن الثاني الذي تقوم عليه شعبية المعارضة الداخلية اليوم يعودُ - بتقديرنا - إلى موقفها الرافض لاستدعاء التدخل الخارجي بعكس معارضة الخارج التي تطالب به وبإلحاح. موقفُ المعارضة من رفض التدخل الخارجي ينسجم مع موقف الأغلبية العظمى من الشعب السوري، وحرص أقطاب المعارضة على دوام حالة الانسجام غالباً ما بدا دافعهم للتهليل كلّما أطلَّ مسؤول في الناتو أو مسؤول أوروبي أو أميركي ليعلن أن لا نية لأحد بالتدخل عسكرياً في سورية، وكأنهم يريدون أن يوصلوا لجماهيرهم رسالة مفادها أن رفضهم لهذا التدخل هو الذي منعه، هذا الأمر ربما كان وراء عدم تنبه الكثيرين إلى أن عبارة «سورية ليست ليبيا» ليس المقصود بها أنه لن يكون هناك تدخل عسكري في سورية بل المقصود أن تدخلاً كهذا يحتاج لتركيبة جهنمية لم تكن مطلوبة في ليبيا، تركيبة أحد عناصرها هو دفع أهل البيت - عن جهل أو غيره - إلى نفي وجود هذا التدخل على الأرض.
إثارة غبار وعقوبات
على السوريين قاطبة
هكذا ومنذ أكثر من سنة تتعرض سورية لكل أنواع التدخل، بل إن التدخل الحاصل هو سابقة سيتوقف عندها الكثير من دارسي القانون الدولي ليبينوا كيف ارتكبت دول بعينها جريمة عدوان بحق شعب كامل ودولة مؤسِسة للأمم المتحدة، كل ذلك عبر استعمال مجلس الأمن لإثارة كثيف الغبار لتغطية تدخل عسكري تم خلافا للفصل السابع من الميثاق، وعبر فرض عقوبات على السوريين قاطبة وذلك خلافاً للإجراءات المنصوص عليها في الفصل السادس من الميثاق، وسيُفاجأ الدارسون للحرب على سورية أنها لم تكن فقط الأقل كلفة للدول الساعية لإزالة سورية عن الخريطة بل كانت الأكثر دماراً من بين كل الحروب التي خاضتها دول «المليار الذهبي» من خارج الأمم المتحدة لكونها أصابتْ النسيج الجمعي السوري بتهتك مرعب يجدر أن تضطلع بمهمة ترميمه الأحزاب السياسية بالتكافل والتضامن مع مؤسسات المجتمع المدني.
قدرة معارضة الداخل على
التكييف القانوني لطروحاتها
أين هي معارضةُ الداخل من القدرة على التكييف القانوني لطروحاتها؟ لن نتحدث عن الغياب شبه الكامل لتحليلات المعارضة للدستور الجديد أو لقوانين الإصلاح السياسي بل سأكتفي - للتبسيط وتجنباً للحرج - بعرض رؤية فصيلين من فصائل المعارضة السورية الداخلية لمفهوم الغني والفقير حسب ما عبّر عنها كل من رئيس حزب عدل الدكتور نبيل فياض وأمين اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين الدكتور قدري جميل وذلك على هامش قيام الأول بدعوة الثاني إلى التنازل عن ثروته لمصلحة المتضررين من الأزمة السورية ليثبتَ صدق توجهه بضرورة إعادة توزيع الثروة بشكل عادل، وإلا يجب على الدكتور جميل - حسب الدكتور فيّاض - أن يجيب عن سؤال «من أين لك هذا؟».
بداية، يبدو مُخيباً للآمال أن أعضاء الحكومة الحالية لم يقوموا بتقديم بيان مالي يوضحُ أملاك كل منهم وذلك على غرار ما يقوم به نظراؤهم في الديمقراطيات الغربية، أمرٌ كهذا كان يمكن له أن يُشكِّل علامة فارقة في لحظة فارقة من التاريخ السوري: لحظة تشكيل حكومة من المعارضة والموالاة، أمر كهذا لا يحتاج لقانون وإنما لمبادرة لو أقدمت عليها المعارضة لدشَّنت تقليداً أخلاقياً «سيورط» كل من يتجاوزه بشبهة المال الحرام، وحبذا لو أن د. فياض - وهو العلماني الذي كنّا نتداول كتبه سراً وبفخر - قد قارب الموضوع من هذه الزاوية القانونية، ولكن يبدو أن بعض قادة المعارضة الداخلية لدينا عمالقة لجهة السياسة لكن بأرجل من ورق لجهة القانون، لقد فات مؤسس حزب عدل أنه ليس المطلوب من الأغنياء أن يتحولوا لمُحسنين في الملمات الوطنية ولكن يجب عليهم أن يخضعوا لقانون ضريبي عادل تُجبى على أساسه الضرائب - وليس الصدقات - لتُضخ في الاقتصاد تماماً على غرار ما يحدث في أوروبا اليوم حيثُ تُفرضُ ضرائب تصاعدية تصل إلى 75% على أصحاب الثروات الضخمة لرفدِ الاقتصاد الراكد من دون أن يطلب منهم قادة المعارضة أو الموالاة التبرع بثرواتهم لمصلحة الفقراء، لماذا؟ لأن دعوة كهذه ستُخرِج من يطلقها من دائرة التداول السياسي وتُفقده حتى ثقة الفقراء الذين سيعتبرون طرحاً كهذا بمنزلة إعطائهم السمكة بدلَ تزويدهم بالمال اللازم لشراء شباك الصيد، تصريح كهذا لا يمكنْ أن يصدر عن ساسة الغرب لكون الخبراء في القانون بكل فروعه هم من يشرف على أعمال الأحزاب وتصريحات قادتها، في حين في البلدان الزاحفة للديمقراطية لا يبدو أن قادة أحزاب المعارضة بحاجة إلا إلى مريدين، لماذا المريدون؟ ربما لأن قادة المعارضة في هذه البلدان يعتقدون أنهم «ختموا العلم» «وطرَّزوا الفن» ويحتاجون لمن يصفق لطروحاتهم في مجال السياسة والاقتصاد والعلمانية والفن وتحديداً فن طبخ «وجبات البحص» إما للناخبين تطبيقاً لمبدأ «الجمهور عايز كدا»، أو لخصومهم السياسيين علهم يفلحون «بتخليصهم» من بعض مريديهم.
لم يكن ردّ د. جميل قانونياً هو أيضاً إذ اكتفى بنفي أنه غني وكأن الغنى بات تهمة وهو أمرٌ لا يقره قانون العقوبات أو الدستور السوري، ربما كان المنشأ الشيوعي للدكتور جميل هو ما دفعه لتصريح كهذا لأن الشيوعية علمتنا أن البشر إخوة بالإنسانية لكن الأخ الغني هو «قابيل»، وكم وددت لو سمعت رداً قانونياً يوفّق ما بين الرؤية الاقتصادية لتعزيز نمو الثروات في سورية والرؤية القانونية القائمة على إيجاد نظامٍ ضريبي عادل يحدُّ من التهرب الضريبي ولا يجبر الموظف على دفع ضريبة دخل أكبر من الطبيب أو التاجر أو المحامي.
في أوقات الأزمات تكون مسؤولية المعارضة أكبر من مسؤولية الموالاة، لكن اللافت في العمل الحزبي لمعارضة الداخل اليوم هو أنه يستثمر في جهل المواطن السوري - أو محدودية علمه - للقانون فيعزف المعارضون - عن جهل أو عدم رغبة - عن جعل القانون أساساً لطروحاتهم أو لتصريحاتهم، ربما لأنهم يلاحظون - وهذا صحيح - أن اهتمام المواطن السوري بالسياسة متورمٌ على حسابِ اهتمامه بالقانون، فالمواطن السوري لا يجدُ حرجاً بالاعتذار فوراً عن تولي منصب كاتب محكمة، أما إذا عرضتَ عليه أن يكونَ وزيراً فإنه سيطرق هنيهة قبلَ أن يسألك «أي وزارة تقترح عليّ؟».