قضية دون إستراتيجية وحوار دون تعاريف أو ثوابت

يتبارى المحللون العرب، في كل مجال، في إبراز خطر المخططات الأجنبية عامة، والأميركية خاصة على أمن وطننا وأمتنا. ويبرهنون على ذلك بالدلائل القاطعة وشواهد التاريخ وحقائق الجغرافيا. كما تدور الحوارات، حول مختلف القضايا العربية، تفصل وتشرح أسباب أزمتنا، وهموم شعبنا. وتخلص التحاليل والحوارات إلى تفاؤل بلا أساس، أو تشاؤم بلا داع، أو تشاؤل بلا معنى. وتنتهي الحوارات والاجتماعات بسيل من الاتهامات ترشق في كل اتجاه، إلى جانب عبارات التأييد والاستنكار والاستهجان حسب المناسبة، ثم يسود صمت القبور، وتعود حليمة لتمارس حياتها القديمة.د

إن هذه الحوارات، والمؤتمرات، والقرارات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية تدور في حلقة مفرغة لأنها تبحث في تفاصيل وجزئيات الأزمة العربية فتخلص إلى تصور حلول آنية، توفيقية، ترقيعية مبتسرة، باهظة الكلفة، عديمة الجدوى، ومتناقضة في أغلب الأحيان، تزيد من استفحال الأزمة، هذا إن خرجت إلى حيز التنفيذ وأبصرت النور.
إن كل ما قيل، ويقال، وسوف يقال في هذا الصدد صحيح، ومنطقي، ويمكن لأي تفكير سليم أن يتقبله؛ باعتبار حقيقة وجود المخططات الاستعمارية التي تستهدف المنطقة من جهة، وكوننا مستهدفين من جهة أخرى، هذه حقيقة، والباقي مجرد تفاصيل تختلف حسب كيفية النظر إليها.
ولكن الحقيقة الثابتة أيضاً أن أزمتنا تكمن في أننا كشعب، وأنظمة، ومنظمات، ومؤسسات ندعي أننا نعرف من نحن كما نعرف الأخطار التي تتهددنا. إلا أن الممارسات العملية في الفعل ورد الفعل تظهر أننا لا نعرف من نحن ولا ماذا نريد، أو ما الذي يتهددنا؛ في حين الآخرون يعرفون أننا لا نعرف، وفي نفس الوقت يحتاطون لأي احتمال صحوة نتمناها، ونملك أسبابها، ولكننا لا نعرف الطريق إليها.

سيولة فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية
والشاهد على ذلك أننا جميعاً (أطفالاً وبالغين - رجالاً ونساء - أفراداً ومنظمات وتنظيمات - متطرفين و«معتدلين» - حكاما ومحكومين)، بمختلف انتماءاتنا، ومستوياتنا المادية والفكرية والاجتماعية والسياسية، نعيش حالة سيولة فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، تدفعها رياح التغيير نحو المجهول، وتحطم في اندفاعها ما بقي من ثوابت وتقتلع ما تبقى من جذور صمود ضاربة في الأرض والتاريخ. الكل يعرف، يردد، ويؤكد:
- إن للولايات المتحدة إستراتيجيات ثابتة ومعلنة تشمل العالم عموماً ووطننا العربي بشكل خاص. وإن هذه الإستراتيجيات قد تتعرض لانتكاسات أو تباطؤ في مسيرتها، إلا أنها ثابتة ومستمرة.
- إننا مستهدفون، استراتيجياً، في أرضنا، وتاريخنا، ومجتمعنا، وثرواتنا، وثقافتنا، ووحدتنا، وأدياننا دون استثناء أو تفريق.
- إن ما يسمى بـ«دولة إسرائيل» قاعدة أميركية، أو أن هنالك تحالفاً استراتيجياً بينهما، إذا حسن الظن وصدقت التصريحات.
- إن «للكيان اليهودي» في فلسطين، أيضا، إستراتيجيته الثابتة، التي لا تتغير ولا تتبدل، والتي يتلخص أهم بنودها فيما يلي:
• إن الكيان اليهودي في فلسطين قد فرض وجوده ويحافظ عليه بحقائق القوة، والتفوق العسكري، والسلاح النووي، والتأييد الدولي. ولا يلزمه اعتراف بوجوده سواء من العرب أو غير العرب في العالم.
• إن مطلبه الاعتراف بالسيادة على أرض أوهام الميعاد.
• إنه يطلب السلام «لإسرائيل» ضمن حدود متغيرة باستمرار، تشمل مبدئياً كل أرض فلسطين، وحدود أخرى أبعد منها تحددها ضرورات أمن الكيان، كما يراها ويقدرها.
• إنه يقبل ويشجع التفاوض الثنائي مع «الدول العربية»، ضمن شروط لا يتنازل عنها، تتمثل في عدم التفريط بالأرض، عدم التفاوض مع الفلسطينيين، عدم إقامة دولة فلسطينية، والاعتراف بـ«دولة إسرائيل» والتطبيع معها في كل المجالات قبل الخوض في أية تفاصيل أخرى.
هذا كله، وأكثر منه، معروف ويتردد باستمرار في تصريحات المسؤولين المحليين والإقليميين والعالميين، كما يتداوله المحللون السياسيون في مطالعاتهم المقروءة والمسموعة والمرئية.
في وطننا العربي، وفي سياق التصريحات، والمفاوضات، والاتفاقيات، والحوارات تنطلق سيول الاصطلاحات والمفردات التي لكل واحدة منها مفهوم مختلف لدى أي مستمع، ولا يتفق اثنان على مدلول محدد لأي منها. وتدور حوارات أين منها حوار الطرشان (فالطرشان قد يتكلمون ولا يسمع أحدهم ما يقوله الآخر، أما حواراتنا فالكل يتكلم والكل يسمع ولا أحد يفهم. وبذلك لا يتفق اثنان منا على تفصيل واحد).
أما الذين اتفقنا على تسميتهم «أعداء» فلهم إستراتيجياتهم، وتعاريفهم، وثوابتهم وخططهم في جميع المجالات، تضعها لهم معاهد ومؤسسات علمية متخصصة، يشرف عليها صانعو إستراتيجياتهم، ويلتزم بها الجميع. تكلف كثيراً وتدر أرباحا مادية نعجز عن إحصائها ومكاسب سياسية ومعنوية تفوق الكلفة والربح.

قلوبنا وعقولنا وأسواقنا مفتوحة للرأسمالية العالمية
ومع اتفاقنا على أنهم «أعداؤنا»، أو على الأقل، أنهم الطرف الآخر في صراع الوجود، فما زلنا نستورد بضائعهم، ونعرض أفلامهم، ونستمتع بسلعهم الاستهلاكية في كافة مجالات الحياة، ونرحب باستثماراتهم التي سوف تطور السياحة والمصارف والتأمين، ونرحب بتعاونهم الثقافي وجامعاتهم ومعاهدهم التي سوف تنقل المواطن العربي نقلة حضارية «غير شكل». والأخطر من ذلك، وفي أوقات الثقافة الجادة، يتكرم علينا إعلامنا ببرنامج تاريخي يجردنا من الشيء الوحيد الذي ما زال بعضنا، جاداً، يفتخر به ويأمل أن يكون الأساس الذي قد ننطلق منه لبناء كيان يستطيع البقاء، فيسمي الحضارة العربية بـ«حضارة شرق المتوسط» التي أسسها أقوام «يظن» أنهم «هندو أوروبيين» يدعون «الحثيين»، وعلى الرغم من أنهم لم يتركوا لغة مكتوبة، إلا أن عشرات آلاف الرقم الموجودة في الأناضول تدل عليهم (أي شعب غير العرب). إن هذه الجرعة من الثقافة التاريخية تقدم لنا بانتظام على قنوات تلفزيوناتنا الأرضية والفضائية. إن الذي يقدمها إما جاهل بجميع المقاييس، أو «شيء آخر». هل هذا إعلام يحترم نفسه في دولة مقاومة؟. والأشد خطراً من هذا وذاك، أن بعضنا قد طبع مع العدو المباشر الذي يحتل أرضنا، ورفع أعلامه على أراضينا، وما زال ينادي بالتحرير ودعم المقاومة، وقد يتبرع بمبالغ تزيد أو تنقص بعد استشارة لا بد منها من السفارة الأميركية أو القائم بالأعمال للكيان اليهودي.
والمثال الصارخ الجديد على عدم الفهم أو التقدير، إن لم يكن «شيئا آخر»، ترحيب وزراء خارجية الدول العربية بدعوة الرئيس الأميركي «جورج بوش» لمؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط (دون تحديد). رحبنا دون أن نعرف أو نفهم أو نقدر. رحبنا دون أن تكون لنا إستراتيجية محددة أو حتى خطة. هل رحبنا لأننا لا نستطيع إلا أن نرحب؟. هل نأمل بحل من نوع ما، وما زالت رحلة «السادات»، وكامب ديفيد، وأوسلو، ونتائجها ماثلة في الأذهان؟ هل نعرف معنى الصراع عندما يكون على الأرض والمصير؟. هل نتوقع أن يمن علينا أحد بإعادة حق لنا لا نملك القوة الكافية لاسترداده؟. هل نعرف كم خسرنا حين انحسر المد القومي، وخرجت مصر من القضية العربية؟. هل تثق النظم العربية بمن يعلن صراحة أن حدوده من فراتها إلى نيلها بالإضافة إلى هامش الأمن؟. أو هل تثق بأميركا وتعتقد أنها تملك كل أوراق الحرب والسلم والحياة والموت، وحرب العراق وحرب لبنان شواهد صارخة على استهتارها بهم إلى درجة الاحتقار؟. هل؟ وهل؟ وهل؟.

شروط للحوار مع الذات
إننا بحاجة إلى وقفة صادقة مع الذات، وحوار علني ومفتوح، مستمر ومتاح للجميع؛ ننسى فيه كل تراكمات الماضي، وبؤس الحاضر وتناقضاته ومكاسبه الفردية التي تؤسس لانقسام طبقي حاد وخطير، وضبابية المستقبل ومخاطره. وهذا يتطلب حشدا لكل الطاقات ومتابعة لا تنقطع. إنه جهاد بكل ما في الكلمة من معنى وعلى كافة الصعد والجبهات، بعيداً عن الاحتفاليات الوطنية والقومية التي تتحول بقدرة قادر إلى حلقات رقص ودبكة وبازار وعرض أزياء كرنفالي للقوميين الجدد وصيحات هستيرية تذكرنا بعشاق «ألفيس برسلي» أيام عز الملك.
إن حوار الذات يتطلب منا:
1- أن نضع تعاريف واضحة ومحددة وثابتة، نتفق عليها جميعاً بصدق واقتناع، لكل ما هو مهم وجوهري ولازم لحياتنا كأفراد وجماعات، ونظام ومنظمات.
2- أن يحدد دور الأفراد، والجماعات، والمؤسسات العامة والخاصة، وكافة الفعاليات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعلمية، والعسكرية في حماية الأمن الفردي والوطني والقومي، على امتداد هذا الوطن، بما في ذلك حماية البيئة ومحاربة التلوث (فكلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته).
3- أن نعرف من نحن؛ ضمن حقائق التاريخ والجغرافيا والمجتمع والاقتصاد والثقافة والأمن الفردي والوطني والقومي والإنساني، كما نتحقق منها نحن لا كما يريدها لنا غيرنا ويلقمنا إياها في وجبات جاهزة، معلبة.
4- أن نعرف عدونا الذي يستهدف أرضنا وثرواتنا وتاريخنا ومن يتعاون معه ومن يناوئه استراتيجياً أو مرحلياً.
5- أن نحسب مصادر قوتنا فنجمعها، ونقاط ضعفنا فنتلافاها.
6- أن نقرر، وبشكل جماعي، ماذا نريد وسبيل الوصول إلى ما نريد.
7- أن نعيد صياغة ثوابتنا وأولوياتنا التي تحدد للأفراد والمجتمعات والأمة حدود المحرم والمسموح، وما بينهما من مناطق تكون محرمة أحياناً، ومجازة في حدود الضرورات أحياناً أخرى، على أن لا تتعداها.
8- أن يكون الصدق والعمل فقط هو مقياس التزامنا بثوابتنا، إذ إن الشعارات وإعلانات المبادئ، من دون تطبيق عملي، تصبح وسائل للتضليل والهرب من واقع لم نتحضر لمواجهته ولا نستطيع الرضوخ له لاعتبار ما نمثله وما نطرحه من شعارات.
9- أن يكون القانون هو الحكم على أعمالنا دون تمييز أو استثناء.
10- الأهم من ذلك أن ندرك أن جميع الأعداء الذين نواجههم وأدواتهم هم موظفون عند سيد واحد عليهم التنفيذ دون أن يملكوا حق القرار... هذا السيد هو الرأسمالية الدولية التي أبدعت آلية اقتصاد السوق لتخضع الاقتصاد العالمي لسطوتها فتحيي وتميت.
بهذا فقط نستطيع التخلص من التناقض بين القول والفعل، بين النظرية والتطبيق، بين العدل والجور، بين السلام والاستسلام، بين الوجود أو عدمه.
بهذا فقط نستطيع البدء في وضع إستراتيجية محددة.
بهذا فقط نستطيع أن ندعي بأننا حريصون على بقائنا، متمسكون بأرضنا وثرواتنا، مدافعون عن أمننا كأفراد ومجتمعات، وكأمة لها خصائصها وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ، وكأنظمة قادرة على حماية مواطنيها وحرميها الشريفين وأولى القبلتين، ضمن حدود الإنسانية واحترام حقوق الغير ومصالحهم وأمنهم.
بهذا فقط نستطيع أن نكسب احترام العدو، ودعم الصديق، وأن يكون لنا وزن في معادلات القوى وفي ساحات الصراع، أو على موائد المفاوضات والحلول السلمية.
إن العالم يتعامل معنا ككتلة تساوي صفرا ويمكن أن تسقط من أي حساب دون أي تأثير على النتائج.