استخدام جريمة إطالة اللسان في الأردن ومثالان من إسبانيا للاعتبار
بعض الشعارات المتطرفة في ظل الانفعال المجتمعي الذي يعيشه الشعب الأردني، لا يصلح لعلاجها استخدام جريمة إطالة اللسان. فمن يقوم بمتابعات في هذا الصدد، لمجريات العشرين شهراً الماضية، يتبين بجلاء أن أعداد من تصدر عنهم "إطالة اللسان"، في تكاثر ملفت، والأغلب الأعم ممن توجه إليهم التهمة هم الشباب، وخاصة أولئك الذين يشاركون في الحراكات الشعبية. ومما يستدعي الانتباه أن تزايد توجيه هذه التهمة طغى على أي تهم أخرى يمكن أن توجه إلى هذه الشريحة من الأردنيين، وأن هذه الشريحة تتكون من شباب متعلمين، وكثير منهم يحملون شهادات جامعية ومن مستوى اجتماعي لا يعاني من ضيق ذات اليد، لكنه يعتقد أنه يجسد من خلال شعاراته وهتافاته ومطالبه الإصلاحية، هموماً عامة لم تأبه بها الدولة وسلطاتها.لسنا مع التطرف في الشعارات والهتافات التي تخرق الخطوط الحمراء وتتناول الملك، لكن العلاج الذي تعتقد السلطات أنها تقدمه باستخدام تهمة جريمة إطالة اللسان بهذه الكثافة، أصبح يستدرج المزيد من الوافدين إلى المسيرات، والمزيد من الاختراق لتلك الخطوط. والغريب أن أصحاب القرار ما يزالون يسيرون على ذات النهج، اعتقاداً بأن العقاب والسجن سوف يبعث في الشباب خوفاً. بل وأضاف أصحاب القرار للبعض، فوق جريمة اختراق الخطوط الحمراء، تهمة تقويض نظام الحكم، بغية التخويف بعقاب أشد.لن أناقش أركان تلك الجرائم ومدى توافرها، لكنني أقول إن على أصحاب القرار أن يتذكروا أنهم بما يفعلون يصبون الزيت على النار. وبالتالي، فإن ما نراه من تفاقم للأحوال، يقتضي استيعاب الناس بكل السبل.وأنبه إلى أننا أمام حالة شعبية، طفا فيها على سطح الحياة السياسية والمجتمعية عدم الثقة بالحكومات ومجالس التشريع، إما لعدم القناعة بسلامة سلوكها أو نزاهته، وإما اعتقاداً بأنها مجرد أشكال دستورية لا تملك من أمرها شيئاً. وفي الحالين، فإن أغلب النقد الموجه لها والتطاول عليها والمطالبة برحيلها، ليس مقصوداً لذاته، وإنما للإيحاء لجلالة الملك بأن هناك خللاً في النهج يستدعي التغيير، وأن تعاقب تغيير السلطتين؛ الحكومة ومجلس التشريع، المسخّرتين لاتّباع ذات النهج، لا يشكل استجابة لإصلاح ولا لتحسين أحوال. وفي الوقت الذي حافظت فيه أغلبية الشعارات على تناول السلطتين فقط، رغم أن أصحاب هذه الشعارات يدركون أن تعاقب التغيير فاقد للجدوى، فإن هذه المحافظة استمرت التزاماً من أصحابها بعدم المساس بالخطوط الحمراء، فلعل ذلك يشكل إيحاءً وتنبيهاً مستمرين للخلل.لكن الوافدين إلى منطقة الخطوط الحمراء أصبحوا في تزايد كل يوم، ليتناقص في المقابل عدد الملتزمين بعدم الاختراق. وهي ظاهرة لا ينكرها سوى عميان البصر والبصيرة. وبالصدفة، قُيّض لي أن أناقش بعض هؤلاء الذين يتزايد توافدهم على المناطق المحرمة، فكانت مفاجأتي أكبر من حد الوصف. إذ قالوا لي اننا خاطبنا الحكومة ومجلس التشريع مجرد بيادق على رقعة شطرنج، ولا تتحرك حتى تعبنا، ونثق بأن الرسالة قد وصلت. ولكن طال صبرنا ولا من استجابات حقيقية للإصلاح. ومن هنا كان علينا أن نخاطب الملك. فإذا كان ما يصدر عنا جريمة، فمرحباً بالسجن من أجل الوطن. هكذا وبكل صراحة قالوا. لكن الأخطر هو ما ظهر لي من قيم سلوكية مستجدة، وهي أن البعض من الشباب يعتقدون أن ما يصدر عنهم من أقوال يعتبرها القانون جريمة إطالة اللسان، تجسد عند هذا البعض شجاعة يتفاخر بها، وأنه لا يمانع، هكذا يقول، أن يكون الثمن الذي يدفع من أجل حرية الأردنيين، وتنظيف البلد من الفساد والفاسدين. ورغم محاولاتي لترشيد خطاب من حاورت، إلا أنني فشلت. ولولا أن من تحدثت إليهم يتابعون طروحاتي المرئية والمقروءة والمسموعة في موضوع الإصلاح، لألصقوا بي مختلف التهم.إنني أنادي بأعلى الصوت، وأخاطب كل واحد ممن يستطيعون التأثير وأقول: يا ناس، استوعبوا أبناءكم. لقد أصبحت جريمة إطالة اللسان التي تعاقبون الشباب بها فاقدة لقيمتها وجدواها، بل أصبحت مؤهّلاً وشهادة بالشجاعة عند الكثيرين. يكفي ما فات، ولا تستدرجوا المزيد من الشباب لاعتناق هذه القيمة السلوكية.إن جريمة إطالة اللسان ترتبط بعلاقة الملك بأبناء شعبه. وتحرص النظم السياسية وسلطات الدول على أن تكون هذه العلاقة مبنية على الثقة والمحبة باطراد مستمر ومتزايد. ولذلك، نجد أن هناك ندرة في استخدام الملكيات الدستورية الأوروبية لهذه الجريمة. والسبب، أنه ليس من مصلحة الملك/ الملكة تفعيل نصوص هذه الجريمة المتعلقة بأشخاصهم. ولذلك، فإن بعض الدول، مثل النرويج، يشترط لتحريك هذه الجريمة صدور أمر من الملك نفسه بذلك، لأن الموضوع مرتبط بعلاقته بمواطنيه، وهو الذي يقدّر بالتالي أثر تحريك الدعوى على تلك العلاقة. وفي الدنمارك، فإن قرار تحريك الدعوى ينبغي صدوره من الحكومة، إذ عليها أن تقدّر أثر الدعوى على علاقة الملك بمواطنيه. وفي هذه الدولة، أي الدنمارك، اكتشف الباحثون أن هذه الجريمة كان قد تم تحريكها مرة العام 1934. وسبب ندرة استخدام جريمة إطالة اللسان في الملكيات الأوروبية هو أن الحكومات وسلطات التشريع هي التي تتعامل بقضايا الناس ومطالبهم حقيقةً وشكلاً ومضموناً، وتمارس دورها كما يستوجب الدستور. ومن ثم، فهي لا تتستّر خلف الملك، ولا تضع الملك في مواجهة مواطنيه.أما في الأردن، فإن الحكومات ومجالس التشريع تخلت عن دورها الدستوري الحقيقي، ووضعت الملك في مواجهة شعبه. ومرة أخرى، يكفي ما فات من إساءات للملك قارفتها الحكومات وسلطات التشريع بسبب سلوكها واستدراجها الناس للوقوع في المحظور، فكانت المحصلة دليلاً قاطعاً على أن البطانات والأجهزة ليست أمينة مع الملك في نصائحها.وأضيف أن الملكيات السابقة، تتطابق نصوص دساتيرها مع دستورنا، وتتطابق أيضاً النصوص العقابية لجريمة إطالة اللسان في قوانينها مع نصوص قانوننا. لكن الاختلاف هو في النصاح وبطانات الحكم. وللتدليل على ذلك، أكتفي بمثالين حديثين من إسبانيا، لبيان الكيفية التي تعاملت فيهما تلك الدولة الملكية مع أبناء شعبها في موضوع جريمة إطالة اللسان، في ظروف الانفعال والهيجان المجتمعي.المثال الأول: أنه حدث في أسبانيا في كانون الأول (ديسمبر) 2011، أن نشرت إحدى الصحف عن قيام زوج كريستينا ابنة الملك خوان كارلوس، باصطناع بعض الفواتير، ووضعها ضمن فواتير أخرى سليمة تصرف قيمتها من الخزينة، وقبض قيمة النوعين من الفواتير من المال العام. واستغلت الصحف، وخاصة صحف المعارضة، هذا الخبر، ليصبح الحديث اليومي للشعب الإسباني. وأدى هذا الأمر إلى انفعال مجتمعي، وكتابات وتجريحات تناولت سلامة سلوك أعضاء البيت المالك ونزاهتهم. ولكن بناء على نصيحة البطانة، ظهر الملك خوان كارلوس على التلفزيون الإسباني في 29 كانون الأول (ديسمبر) 2011، ليعلن أن زوج ابنته تم تقديمه للتحقيق، وأنه قرر حذف اسمه من الأجندة الرسمية للقصر الملكي، وأعلن أن المبلغ الذي تدفعه الخزينة للعائلة الملكية مقداره 8 ملايين و400 ألف يورو، وأنه أمر بوضع التفصيلات الدقيقة لأوجه صرف هذا المبلغ على الموقع الإلكتروني للقصر، وأن المواطن الإسباني يستطيع أن يعرف ويراقب الكيفية التي أنفقت فيها الأسرة ما يتحمله كدافع ضريبة عنها (مع ملاحظة أن عدد سكان إسبانيا 46 مليون نسمة، وأن المواطن يتحمل ما يعادل الـ20 قرشاً في السنة من نفقات العائلة المالكة). وأصبح نشر التفصيلات تقليداً سنوياً.وهنا نلاحظ أن ما صدر من إساءات للملك يشكل جريمة إطالة اللسان وفقاً للقانون الإسباني، وكان يمكن جلب من تطاولوا على الملك وأسرته إلى القضاء، بمقارفة الجريمة المذكورة، خاصة وأن الإساءات حدثت أثناء التحقيق، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. لكن حرص النصاح والبطانة على الملك وأسرته، وتعزيز علاقتهم بشعبهم، جعلهم يستبعدون أي تفكير في استخدام جريمة إطالة اللسان تلك، وكانت نصيحتهم هي أن يقوم الملك بذلك الذي أعلنه على شعبه. ورحبت العوائل المالكة الأوروبية بما فعله الملك، كما حظي ذلك بإطراء وسائل الإعلام.المثال الثاني: خلال نيسان (أبريل) 2012، ذهب خوان كارلوس ملك إسبانيا بصحبة زوجته إلى باتسوانا في جنوب أفريقيا، في إجازة خاصة لممارسة هوايته في صيد الفيلة. وفي يوم 10 نيسان (أبريل) 2012، تعثّر أثناء السير، فوقع على الأرض وكسرت ساقه، وتم نقله إلى مدريد لإجراء عملية جراحية له. وما إن انكشف أمر رحلته، حتى جندت المعارضة شخصياتها وصحفها ونوابها في البرلمان، للإعراب عن استيائهم من الملك، بحجة أنه ينفق ببذخ على رحلاته ومتعه الشخصية، في وقت يعاني فيه الاقتصاد الإسباني من أزمات كبيرة، ويعاني الكثير من أبناء إسبانيا من ظروف معيشية قاسية. وقاد ذلك إلى انفعال لدى كثيرين، بل وهزة مجتمعية، أدت إلى مطالبة بعض نواب المعارضة بأن يبين الملك للناس المبلغ الذي أنفقه في رحلة صيده، في حين طالب البعض الآخر، وفقاً لما نشرته صحيفة "ذي تيليغراف" في 16 نيسان (أبريل) 2012، بأن على الملك أن يختار بين واجباته في خدمة شعبه وبين أن يتنحى ليتفرغ لمتعه الخاصة. ووصل الأمر بالجناح اليساري إلى القول بأنه حان الوقت لتنازل الملك عن السلطة، مع هجوم حاد وأوصاف غير لائقة تم إطلاقها على الملك وزوجته. وهنا نلاحظ أن الملك كان في إجازة خاصة، شأنه في حقه في الإجازة، كشأن أي مواطن إسباني وغير إسباني. كما يلاحظ أن مخصصات الملك محددة بمبلغ مقطوع في الميزانية مقداره 8.4 مليون يورو، لتغطية نفقات عام كامل له ولأسرته واحتياجات قصره، ومن حقه قانوناً أن يخصص أو يدّخر من هذا المبلغ المقطوع مبلغاً لإنفاقه في إجازته على النحو الذي يريد. وأمام هذا، يصبح كل من تطاول على الملك مقارفاً لجريمة إطالة اللسان، وعقوبتها سنتان في القانون الإسباني.لكن بطانة الملك ونصاحه لم يفكروا في استخدام جريمة إطالة اللسان ضد من أساء إليه من أبناء شعبه، وإنما بناء على ما قدموه له من نصيحة، خرج الملك على شعبه ليعتذر عما بدر منه، وفقاً لصحيفة "ذي تيليغراف" يوم 18 نيسان (أبريل) 2012، ويقول: "إنني آسف. لقد ارتكبت خطأ. ولن يتكرر هذا مرة أخرى". وازداد الملك إكباراً في نظر شعبه.وفي مقابل الصورة السابقة للتعامل مع جريمة إطالة اللسان، نلاحظ النقد القاسي الذي توجهه مراكز الأبحاث والفكر ومؤسسات حقوق الإنسان لدولة تايلاند ودولة زمبابوي اللتين تستخدمان هذه الجريمة بإفراط، حتى أصبحت كل واحدة تشكل المثل السيئ الذي يشجبه ويدينه الكتاب والمفكرون في قارات بشر الجنس الأصفر والأبيض. وأمام ما سبق أقول، يا أيها النصاح وأعضاء حلقات الحكم، ضيّقة كانت أم واسعة، إنكم بما صدر منكم حتى الآن تعلنون حرباً بين النظام وشعبه، وتدفعون الوطن إلى مصير مجهول. وفي ضوء المحصلة التي نعاني منها الآن، فإنه من غير الممكن أن يكون توجيهكم للمسار هو في سبيل خدمة الملك، وإنما لخدمة مصالحكم، وكفاكم ما أوصلتمونا إليه من حال. إن واجبكم هو النصح باستيعاب الناس، والبحث عن أسباب شكوى الناس وعلاجها بدلاً من العقاب، فتغييركم لمساركم أصبح ضرورة، إن كنتم تخشون الله، وتقدمون الوطن والملك على أنفسكم. وابدأوا بالإفراج عن الذين أودعتموهم السجون. وبغير ذلك، فإن استمرار نهجكم سوف يدخلنا في نفق مظلم