حكاية أبي

 سناء أبو حويج


كزهر البيلسان تُطِلُّ صُـوَرٌ لمدينة "الرَّملة" الفلسطينية من غلاف الكتاب الذي دَوَّن أبي فيه قصة حياته التي ارتبطت بما حلّ بتلك المدينة العزيزة في نكبة فلسطين.

اليوم وفي خِضَم ما بنا من مصائب ونوائب، يأتي صوتٌ من فلسطين هو صوت أبي الشاهد على العصر والذي حَبَته السماء ذاكرة حيّة سطرها على صفحات كتاب.. قصته هي حكاية إنسان عادي، قصة من الحياة، من صميم واقع إنسان وُجِدَ في ذلك المكان، والتقى به الزمان ليقترن مشوار حياته بأكبر ظلم تاريخي وقع في القرن العشرين ليُغيّر مجرى حياة مَن في فلسطين وما حولها..

اختار أبي عنوان "الأيام العشرة الأخيرة" لكتابه الذي صدر مؤخراً عن "دار الثقافة للنشر والتوزيع/عمَّان"، مُشيراً إلى تلك الأيام العصيبة التي سبقت سقوط مدينته "الرملة" في أيدي العصابات اليهودية التي قضمت الوطن قطعة قطعة..

لطالما روى لنا أبي ذكرياته القيّمة.. وكُـنا دوماً نطلب منه تكرارها وسردها أمام الأصدقاء.. وبعد إلحاح منّا بضرورة كتابتها، ارتـأى أن يُدوِّنها في كتاب للسيرة الذاتية يتصفحه القادمون إلى هذه الحياة، لينهلوا من تجارب ووقائع وأحداث ومعاناة قد تساهم في إرساء أركان العدل لِحَقّ ضاع على عتبات هذا الزمن..

من طفولة معذبة بقسوة الأب وفقدان الأم والمسؤولية المُبكرة، تفتق شباب أبي عن روح وثُابة مُقبلة على الحياة ومتصالحة معها.. فبعد كل عثرة كان ينهض أكثر تصميماً على تحدي الصعاب.. مرّ بكل مراحل ضياع الوطن ثم الشتات والاغتراب واللاستقرار حتى وضع الرحال في الأردن وأقسم بأن لا يبرح المكان بعد ذلك اليوم..

ويمضي العمر ويتضاءل معه الأمل بالعودة، بل ويتلاشى كالسراب، ولكن وبالرغم من ذلك يأبى والدي التنازل عن الحلم.. كان يزور بيته في الرملة من وقت لآخر إلى أن كانت الزيارة الأخيرة في عام 1984 التي وجد فيها البيت رُكاماً.. فتألم لذلك كثيراً ولم يعد إليه ثانية.

أهدى أبي قصته لمدينته العزيزة "الرَّملة" التي لم يُكتَب عنها بقدر ما تستحق، وإلى رفاقه وشركائه في المعاناة الذين ظنوا أنهم عائدون في غضون أيام.. إلا أن كل خطوة خطوها بعيداً عن فلسطين كانت تُبعدهم عنها أميالاً.. ليصبح بينهم وبينها جدار يُقام ويرتفع مع مرور كل يوم..

أهداها إلى مَن هم في الشتات، أولئك الذين حملوا فلسطين في وجدانهم.. الوطن الحلم الذي لا بد من العودة إليه، والهوية التي ستـُردّ إليهم يوماً.. إلى النازح اللاجئ الذي ما زال يحتفظ بمفتاح داره في يافا أو حيفا.. أهداها إلى كل أسير، منفيّ، مُغترب، رازح تحت الاحتلال في الداخل، مُبعد في الخارج.. إلى الإنسان الفلسطيني الذي أضحى سجين مأساة الماضي، وأسير معاناة الحاضر، ورهين مستقبل مجهول يلفه الخوف والغموض وعدم الأمان في ظل وضع عربي غاية في الوَهن..

الطبعة الأولى للكتاب هي باللغة العربية على أمل أن الأُمّة التي اتُهِمَت بأنها لا تقرأ ستقرأه وستجد فيه تذكاراً وتذكيراً بأن فلسطين كانت "الثور الأبيض" الذي أُكِل أولاً، وبأن كل مصيبة حلـت بالشرق الأوسط كان أساسها هذا الكيان العنصري الغريب الذي ما انفك يخطط ويزوِّر ويتآمر ويحتال. أما الطبعة الثانية فستكون- بإذن اهجئ- بالإنجليزية، موجهة للغرب الذي احتكر الصهاينة إعلامَه وشكّلوه كما يحلو لهم ليُناسب مصالحهم، وزجّوا به محرقتهم لدرجة أن دخلت مناهج الدراسة في مختلف الدول الغربية. لقد استغل الصهاينة مأساة "المحرقة" لينطلقوا منها يكتبون الروايات الدرامية الحزينة التي ترجموها لعديد اللغات، وينتجون الأفلام التراجيدية، يستدرّون بها عطف الأجيال الغربية اللاحقة للحرب العالمية الثانية، لتتجه السياسات الغربية والرأي العام نحو الانحياز والدعم الكامل لكيانهم..

إن اليهود الذين استطاعوا أن يحفروا في ذاكرة العالم مأساة محرقتهم وعملوا المستحيل لإثبات "وجودهم" في فلسطين قبل ثلاثة آلاف عام، ليس لديهم دلائل أقوى من تلك التي يملكها الفلسطينيون عما حدث في فلسطين في العصر الحديث..

هنا تأتي أهمية رواية أبي التي ستكتسب مزيداً من الأهمية مع مرور الزمن لما تحويه من تفاصيل وأحداث.. فلم يقُل أبي الثمانيني إلا الحقيقة، وليس إلا الحقيقة. إن رواية أبي هي دعـوة لكل فلسطيني مُثقف يحمل بين جنباته تفاصيل مأساة عاشها بسبب ضياع فلسطين أن يقولها ويُدوِّنها.. فلدى كل فلسطيني "محرقة" مستمرة وبأشكال عِدّة..

حكاية أبي ليست فقط حكاية نازح مُغترب، بل هي تختزل حكاية شعب مكافح مجتهد ومُقبل دوماً على العلم والعمل.. إنها مسيرة إنسان مثابر طموح متعلق بالأسرة وبتراب الوطن، وضعته المأساة على طرقات لم يكن ليمضي فيها، في زمن ما أصعب أن تكون فيه.. فلسطينياً..!!

إن أبي هو ابن هذا الشعب الذي يحمل بين ضلوعه حُبَّ فلسطين وحلم العودة إليها... فكانت كلمة أبي في الخاتمة وعداً: "سنرجعُ يوماً"... فيوماً ما سيَدقُ هذا الشعب بيده المُضرّجة بالدماء والدموع والعَرَق أبوابَ فلسطين، لتُفتح أمامه جميع بواباتها الموصدة.


Email: sanaizzat@hotmail.com