الأهم هو سؤال ما بعد المسيرة؟



سقطت أمس في ساحة المسجد الحسيني الكبير، كل "الافتراضات” المغشوشة والمخاوف غير المبررة، ووجدنا أنفسنا أمام مشهد منظم يعكس صورة الشعب الاردني، البسيط الطيب، وصورة المعارضة "العاقلة”، بخطاب سياسي موزون يعبر عن مطالب "الناس” التي وصفها المراقب العام للاخوان بكلمة واحدة وهي "الخير” للجميع.

لا يهم عدد المشاركين في المسيرة، سواء أكانوا عشرة آلاف أم مئة ألف (ارجح التقديرات أنهم وصلوا 30 الفا)، فقد نجحت بإيصال صوت دعاة الاصلاح بمختلف أطيافهم ومناطقهم، لكن اللافت ان الاخوان استطاعوا ان يقدموا نموذجاً في "التنظيم” و ضبط ايقاع الشارع وتوحيد "شعاراتهم” تحت سقف الاصلاح، كما ان الخطاب الوحيد الذي خصص لهم من بين (13) كلمة اختزل رؤية (الجماعة) ومطالبها وأدوات احتجاجاتها، فالعدو - كما قال سعيد - هو الفساد والاستبداد، والشعار هو "اصلاح النظام” والوسائل هي "وسائل سلمية”.

اللافت ايضا ان اجهزة الأمن تعاملت بمنتهى الاحترام مع المشاركين، فبينما كانت سيارات "المنظمين” تطوف الشوارع لتوزيع المياه على رجال الأمن، كانوا هم يتواجدون بكثافة للحفاظ على "المسيرة”، وقد تدخلوا فوراً حين شعروا بأن ثمة من يريد ان يدخل على الخط ومنعوهم من الوصول الى ساحد المسجد، واعتقد هنا ان الصورة التي قدمها الأمن هنا - رغم كل ما سبق المسيرة من تخويفات ومبالغات - تستحق هي الأخرى الاحتفاء والتقدير.

إذا تجاوزنا مثل هذه الانطباعات وغيرها، فإن ما حدث يوم الجمعة كان أمراً غير مسبوق، سواء من حيث العدد المشارك، أو الخطاب المقدم أو التنظيم أو العلاقة بين المنظمين ورجال الأمن، ما يعني - بالضرورة - ان ثمة تطوراً قد حصل على مستوى جبهة "الداعين” للاصلاح وفي مقدمتهم الحركة الاسلامية، وربما تكون هذه المسيرة "بروفة” لما قد يتم مستقبلاً اذا بقي الوضع على ما هو عليه، والمهم - هنا - ان تصل رسالة هؤلاء الى المسؤولين.

ما أخشاه هنا ان يفهم البعض مسيرة الجمعة في اتجاهات اخرى، وان يتم اختزالها في دائرة "الاستعراض” السياسي لجماعة الاخوان، أو تفسير سلميتها وانضباطها على منحى "الاستيعاب” والاحتواء فقط، أو ادراجها في اطار "حساب وزن” الحركة في الشارع دون النظر الى ما وراء هذا الوزن من "مزاج” عام للشارع وضغوطات في المجتمع واغلبية ما تزال "حائرة” ولا نعرف مع من تصطف.

حين دققت امس في المشهد، شعرت بشيء من الراحة الممزوجة "بالخوف” والحذر، صحيح ان ما حدث كان يبعث على الاطمئنان نظراً لعقلانية المنظمين والمشاركين وقدرتهم على ضبط "الصورة” ما يتناسب مع حضورهم وطموحاتهم وامكانياتهم، لكن الصحيح ايضاً ان امكانية تكرار مثل هذا النموذج مستقبلاً لن يكون مضموناً، فمن يستطيع ان يمنع خروج احتجاجات عفوية وغير منظمة في اي مكان، قد يأخذها "الحماس” الى احداث فوضى أو اشتباكات يصعب التعامل معها أو محاصرتها، وبالتالي قد تعيدنا الى مربع "صدام” ممتد لا سمح الله.

اذا كان بمقدوري ان أوجه نصيحة فهي اننا أمام "تحول” حقيقي في الشارع، وربما تكون "المسيرة” محطته الاخيرة، ولهذا فنحن بحاجة لفهم آخر لطبيعة المرحلة واستحقاقاتها، وبحاجة لمقررات جديدة تتناسب فعلياً مع حركة المجتمع ومطالب الناس، واعتقد ان الباب ما زال مفتوحاً ويمكن ان "نتوافق” اذا ما قررنا فتحه على معادلات سياسية تنهي حالة "الاستقطاب” والاحتقان، وتبدد من طريقنا ما تجمع من غيوم داكنة، ورعود وبروق، لا تخفى على عين أي مراقب.