بين السلف الصالح ومكسيم غوركي

كان الجد أرخيب وحفيده ليونكا كأنهما بقعتان من الأرض تثيران رثاء وشفقة، أحدهما أكبر من الأخرى، وكان وجهاهما المتعبان اللذان لوحتهما الشمس وكساهما الغبار يتناسقان تماما مع لون أسمالهما المتوحشة وكان الصبي يَجثمُ قرب جده أشبه ما يكون بهلالٍ صغير.
كان مُحيّا الجد ملوناً بالتجاعيد، جامداً في تعبير ينم عن العذاب والإعياء، يرنو إلى حفيده ويُخفي فمه بيده، كان السعال جافاً، وحزناً غليظا يستهطل من عينيه عبرات كبيرة مستديرة، يُساوره قلقٌ على مصير الصغير بعد أن يُسلم الروح إلى بارئها بعيدا عن الوطن في أرضِ عباب، غريباً بعيداً متشرداً، متسولاً، يستعطي وحفيده من الناس ما يسدا به الرمق.
وفيما عدا سعال الجد وضوضاء أمواج نهر الكوبان كان السهب أخرس يمتد عن جانبي النهر مترامي الأبعاد متوحشاً ويتموج محيطٌ مذهب من القمح بأبهة عظيمة.
كان الجد يفكر في كآبة أن هذا ألسهب سينتزع منه البصر مثلما انتزع منه قُبلاً قوة ألساقين، كان يشعر أنه سيموت عما قريب فيتركه الإحساس وكأنه أمام دين لا بد أن يسده في أوانه المحدد، ولكنه يحب أن يموت بعيدا عن هذا المكان في بلاده ، وحين يُفكرُ في حفيده يبلغ قلقه الأوج ... ماذا سيصير لليونكا ؟ ... كان يطرح هذا السؤال على نفسه عدة مرات في كل يوم ، فيحس شيئا ينقبض في صدره ويتجلد، فيجتاحه غثيان شديد حتى ليتمنى العودة إلى وطنه حالاً دون إبطاء.
لكن روسيا بعيدة ولن يصل إليها على أية حال بل سيموت في مكانٍ ما على الدرب، فيجثم بنظرته المبتلة بدمعه على حفيده ويمسح بيده الخشنة بحذر على رأسه، فيضطرب الطفل ويرفع إليه عينين كبيرتين تنمان عن تفكير يفوق سنه، وتلوحان أعظم اتساعا في مُحيّاه ألناحل الصغير ألمحفور بآثار ألجدري، رقيق الشفتين خالي من الدم بأنفه المدبب، يصحو على أسئلة جَده المعتادة ألمفزعة وصوته المكتئب: ... أنا ألآخر سأموت عما قريب.... أين عساك تذهب بدوني؟.... ما عساك تفعل في هذا العالم ؟.... أنت طفلٌ صغير ناحل، أما ألعالم فحيوان مفترس، سوف يلتهمك في الحال؟.... أنا احبك يا صغيري، ليس لي سواك وليس لك سواي.....كيف أستطيع ألموت؟ أن أموت وأتركك!....لمن؟...يا رب!.....لم أعد أملك ألقوة على ألحياة ولا أستطيع كذلك أن أموت بسبب الطفل،لقد حملته سبع سنوات على ذراعيي العجوزين ... يا رب مُد لي يد المعونة!.
جلس ألجد وشرع يبكي ورأسه بين ركبتيه ألمرتجفتين .... وحتى نهاية رواية مكسيم غوركي " ألجد أرخيب وليونكا" والتي تحز ألقلب حزاً حزناً وألماً، وكما هي روايات غوركي لا ترحم ألقارئ ولا تُهَوّن من صورة ألفضاعات فمتكئي الثاني ما يرد عن السلف الصالح رضوان الله عليهم، أن عزرائيل ملك الموت سُئل فيما إذا بكى يوما؟ فأجاب: أنه كانت امرأة هاربة تحمل طفليها الصغيرين، تَهِمُ في مشيتها من شرٍ يلحق بها ويتهددها وصغيريها، فاعترض طريقها نهرٌ عريض فلم تستطع السباحة بالطفلين معاً، فتركت واحدا على الضفة يبكي وسبحت بالآخر حتى الضفة الأخرى وتركته راجعةً تسبح إلى ألأول، فكنت أنتظرها في منتصف النهر مأمورا بقبض روحها!.
ومن تجوالي مع ألسلف الصالح وصديقي مكسيم غوركي، أجد أن الروسي وكما ألعربي ألمسلم والمسيحي واليهودي والبوذي وكل البشر... فالإنسان هو إنسان،....إختلاجات نفسي ليلاً وولدي الصغير محمد يرقد بجانبي، أو قل في حضني، وأنفاسه ألدافئة تُداعب مُحيّاي، تلتف يده الصغيرة على عنقي وبين أصابع يده الأخرى إزرار قميصي حيث اعتاد على ألتشبث بالإزرار كأنما لا يُطيقُ انفكاكاً، يقاوم الفراق قدراً يُخيفه، حتى صرت أناديه- أبو زرار ....!.
يحزنني النظر إلى مُحيّاه ألجميل ويحزنني أكثر حينما أجد ذكاءه يفوق سنوات عمره بكثير، ففي هذا فأل شقاءٍ وعذابٍ ينتظره، فأشقى أنا وأقلق في اللحظة ويطير من عيني النوم، أبقى مضطجعاً غير أن النوم يجافيني فما أغمض عيناي، بل أبقى مستلقيا أصغي إلى أصوات ألليل بعينين نصف مغمضتين، أحياناً أحدق دون أن يرف لي جفن في تجاعيد السقف المعتمة حيث تَمَوّجْ الخطوط والخرائط الغير مفهومة،إنها الفراغ... إنه العدم!... وجعٌ بالقلب ووخزٌ بالضمير وحزنا لا اعرف سببه.
ربما خوفٌ في عقلي الباطن من نذلٍ جبان قد يوكله الله أمري! ويا رب اعلم أنني فوضتك أمري فلا تكلني إلى غيرك وأطمع أن تجنبني سؤال اللئيم إنك أرحم الراحمين.
أحياناً وليس دائما أُفكر فيما سيحصل لهذا الصغير وآخرين، فيما لو حقيرٌ أسكن كاسبهم في قعرِ مظلمةٍ؟!...ماذا سيحصل لهذا الصغير وآخرين مثله فيما لو ارتكب الحمقى حماقتهم طلباً للسلطة أو تشبثاً بها، فالأمر سيان مُعلقٌ بين لصوصٍ وزعران، بين سمسارٍ وخوان.
د.م حكمت القطاونه tel: 0795482538 hekmatqat@yahoo.com