أحد أسرار الفساد: حمّى الإثراء السريع!
حمّى بدأت تضرب قوى المجتمع، هي -لا شك- أحد أسباب الفساد المستشري في بلادنا، إنها رغبة عارمة بالإثراء السريع والانتقال من نقطة ما تحت الصفر، إلى امتلاك الملايين!
تفكيك هذا المرض وتشخيصه يحتاج لبحث يقوم به إخصائيون، لكن السباحة على ضفاف الموضوع تظهر بعض الإضاءات.
نشوء الشركات متعددة الجنسيات برؤوس أموالها التي تفوق بعض ما تمتلكه قارة فقيرة، غير من مقاييس الغنى والثراء التي عرفها الإنسان على مدار التاريخ البشري كله، وأشعل خيالات المغامرين بالقفز عن كل الأسس المنطقية في الإثراء.. شركة أبل مثلا أغنى من الحكومة الأمريكية، لدى الشركة سيولة نقدية تصل الى 76.2 مليار دولار.
في حين تبلغ السيولة لدى الحكومة الأمريكية إلى 73.8 مليار دولار. كما أن السيولة النقدية لدى آبل اعلى من الناتج الإجمالي المحلي في 126 بلدا حول العالم. وهي تعادل الناتج الإجمالي المحلي في 41 بلدا مجتمعة!
فاقم المشهد بروز عدد ضخم من أصحاب الثروات الخيالية، بيل غيتس وغيره من مغني الراب وتجار الموت ورجالات المافيا، وتجار الحرب والسلاح وأصحاب الصرعات المختلفة، كتلك التي تقول إنها تفهم لغة الحيوانات وغدت أول طبيبة نفسية لهذه الفئة من المخلوقات، حتى أن عددا ضخما من أصحاب المزارع تهالكوا عليها لمداواة اكتئاب أبقارهم ومواشيهم ، وكونت ثروة من ملايين الدولارات في غضون فترة بسيطة، وغيرها كثيرون من المشعوذين واصحاب البدع وربما الإبداع!
طغيان برامج المسابقات: من يربح المليون، الصفقة، الكنز، بنك المعلومات ..الخ، فجر لدى جيل الشباب رغبات دفينة بتحقيق المعجزة؛ النوم فقيرا والصحو مليونيرا، بضربة حظ، وعلى هامش هذه البرامج، هناك بحر من العروض التي تبثها الفضائيات، وتتواطأ معها شركات الاتصالات المختلفة، وبعض المواقع على شبكة الانترنت، اتصل واربح، أرسل «مسج» وادخل السحب كي تفوز بسيارة، مبروك فزت بخمسمائة دولار «إضغط هنا» وتابع اللعبة، أو هاتفنا على رقم كذا علما بأن سعر الدقيقة فقط سبعون قرشا، نهنئك تم اختيارك للمشاركة في السحب على شقة مجانية، وغير ذلك كثير جدا من ألوان الألاعيب والأحابيل التي تحث على المقامرة وتفتح أبواب أمل كاذبة للانتقال من حالة المديونير إلى مرتبة المليونير. هذا فضلا عن رخاوة مؤسسات الرقابة على الفساد، وربما مأسسة الفساد، بحث صار أقوى من المؤسسة الرسمية.. فصرعها بدل أن تصرعه!
ضخ إعلامي وإعلاني يومي و «لحظي» عن مواد وسلع وخدمات استهلاكية، يحتاج «التمتع» بها إلى ميزانية ضخمة لا يقوى عليها إلا حرامي كبير، ما يفتح شهية المحرومين على آمال لا يمكن تحقيقها إلا بإثراء سريع بَرْقي، لا ينفع معه انتظار لا راتب آخر الشهر ولا مكافأة نهاية الخدمة، إن وُجدت الوظيفة أصلا، والحل: بحث محموم عن أقرب الطرق للإثراء السريع، ولو ببيع مسحوق البابونج والنعنع الناشف المخلوطة بدهن الخرفان على أنها علاج للبواسير والسرطان والربو والعنة ووجع الرأس والاكتئاب والصدفية!!
من ينقذ الجيل الجديد من هذه الحمّى؟