إلى متى شعارات الممانعة والرفض تبقى اسيرة للثقافة الاستهلاكية العالمية

تعاني الثقافة العربية من أزمة في هذه المرحلة الراهنة ، فقد تسرب التغريب والاستلاب الثقافي إلى وعي المواطن العربي ، فبات الكثيرون من العرب ينظرون إلى ارتباطهم الثقافي بالغرب نظرة لا مبالاة، والقليل منهم يتحسس عمق المأساة التي تنجم عن تذويت الشخصية الثقافية العربية في بحر الثقافات الاستهلاكية الكونية المسيطرة، ومن هنا تبدو الحاجة الملحة إلى طرح الأسئلة المنهجية المقلقة ، في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ العرب المعاصر، والتي تتميز باندماج العالم الثالث تبعيا قسريا أو طواعيا ، بالنظام العالمي الجديد الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية منفردة .

فردود الفعل الآنية ، والخطاب السياسي – الثقافي الذي يريح الضمير دون أن يغير شعرة من الواقع العنيد ، والمشاريع الثقافية القومية والقطرية التي تبقى حبرا على ورق، وغيرها ، لم تعد صالحة للمواجهة، وليست بقادرة على وقف التغريب والاستلاب وانتشار الثقافة الاستهلاكية على نطاق واسع في جميع المدن والأرياف، وحتى الواحات والصحارى العربية.

مما لا شك فيه أن الثقافة وتحويلها إلى سلعة معدة للتصدير قد تطلبا سنوات طويلة وتخطيطا مدروسا ، انطلق من تحضير دول العالم الثالث وشعوبه لتكون أرضاً خصبة لتقبل الثقافة الغربية الاستهلاكية ، ولقد لعب الارساليات الأجنبية ، والمدارس ، والجامعات ، والبعثات التبشيرية، والمطابع ، والصحافة ، ومراكز تعليم اللغات الأجنبية، والترجمة وغيرها ، الدور الأساسي في بناء القاعدة الضرورية لتلك العملية المعقدة التي جاءت نتائجها أكثر خطورة من الاحتلال العسكري نفسه.

باختصار شديد، يمكن القول أن الغالبية الساحقة من المجتمعات التي يطلق عليها عادة اسم المجتمعات التقليدية أو النامية، كانت تختزن في داخلها ثقافاتها الوطنية والقومية المتوارثة منذ آلاف السنين، والتي بقيت فاعلة حتى أواسط القرن العشرين.ويمكن توصيف ثقافة ما بعد الحداثة بالثقافة الاستهلاكية القادرة على غزو جميع المجتمعات، وجميع الطبقات الاجتماعية ، فهي نتاج شركات رأسمالية عملاقة ذات رؤوس اموال هائلة من جهة، وذات قدرة على انتاج سيل من السلع الثقافية الاستهلاكية من جهة ثانية، ولها القدرة على اختراق جميع الحواجز العرقية واللغوية والقومية والجغرافية والطبقية من جعة أخرى.

والثقافة الاستهلاكية ترفض كل أشكال النخبوية الفكرية والثقافية او الأكاديمية ، تحت رأية حق الجماهير المقدسة بالثقافة، وضرورة تحويل الثقافة إلى غذاء يومي يستفيد منه كل الناس، مهما كانت اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية صعبة، وقد نتج عن ذلك توسع كمي هائل في الإنتاج الثقافي المعد للاستهلاك اليومي عبر مسلسلات ثقافية لا تنتهي. والغاية من كل ذلك هو احتواء الجماهير وتمت تلبية حاجات الناس من السلع الثقافية المتنوعة بأسعار رخيصة جداً ، وتحت الطلب، ولسنا بحاجة للتذكير أن الغاية من وراء ذلك احتواء الجماهير ، وإغراءها بالسلع الثقافية الرخيصة لاشباع غرائزها ولا سيما الجنسية منها، وإبعاد تلك الجماهير عن كل أشكال الثقافة الابداعية الجادة، ولا نبالغ إذ قلنا أن الثقافة الاستهلاكية هي ثقافة مشحونة بالإثارة الجنسية المباشرة ـ وبالمتعة الاتفعالية الخادعة، التي تصيب الناظر إليها بالاسترخاء، وتدفع به إلى الاستسلام للواقع المعاش بعد إشباع وهمي لرغباته السيكولوجية، عن طريق العين.

والثقافة العربية هي ثقافة مأزومة ، لأنها نتاج بنية اقتصادية – اجتماعية عاجزة عن مواجهة الثقافة الاستهلاكية ، كون الثقافة العربية الحالية هي ثقافة المستهلك للثقافة لا المنتج للثقافة، فإذا كان الوطن العربي عاجزا عن انتاج ثقافة تراثية لأن الحاضر لا يصنع ثقافة الماضي با يعتاش عليها، أي ثقافة لا ينتجها أي ثقافة منتجه في الخارج ، ولقد تعاظمت نفوذ الثقافة الاستهلاكية على المستوى العالمي يشبه تعاظم نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنتها على النظام الاقتصادي العالمي

فعملية فتح الباب على مصراعية أما السلع الثقافية الاستهلاكية سيقود بالضرورة إلى اهتزاز القيم الثقافية التراثية ، الوطنية والقومية ، والى تدمير شخصية الانسان في العالم الثالث ، وإلحاق ثقافاته تبعيا بالثقافة الاستهلاكية العالمية، ولسنا بحاجة إلى التأكيد إلى ان ضعف الثقافات المحلية والقومية في المرحلة الراهنة وعجزها عن الابداع الثقافي القادر على مواجهة الثقافة الاستهلاكية يدفعانها إلى سلوك طريق الممانعه اولا ، ثم الرفض المطلق ثانيا ، وقد بينت التجارب السابقة ، على أن شعار الممانعه أو الرفض لا يستمر طوبلا، اذا لم تدعمه قوى انتاجية قادرة على تلبية حاجات الجماهير من السلع الثقافية. 

فهل سيبقى الحال على ما هو علية والى متى سنبقى مستهلكين فقط للثقافة الغربية