مفارقات الحراك العربي...«المشيخات» العربية تقود «الثورة»

سبق وأن أطلق على الثورة توصيفات وتعريفات شتى، وفي ظني أن أجملها قاطبة ذلك التوصيف الماركسي الرائع «الثورات قاطرات التاريخ» هذا ما يختصر الأمر كله، فالثورة ـ بالفعل ـ تشبه قاطرة تجرّ التاريخ (من عنقه إذا لزم الأمر)! نحو الأمام حصراً، على خط التقدم التاريخي.

وعلى امتداد التاريخ شكّلت الثورات عنصر تحفيز للأمم والشعوب، وكانت بالضرورة عنصر تقدم للأمام (ما لم تكن ثورة مضادة بالأساس، أو تتحول لاحقاً إلى ثورة مضادة)! وذلك على مختلف الصعد والمستويات، ابتداء من تأمين رغيف الخبز للفقراء، إلى الحرية للمقموعين، وحتى بناء الدولة القوية والقادرة على مواجهة تحديات عصرها. فالثورة أساساً تسجل في رصيد شعب ما، كعمل جبار محفّز باتجاه التقدم نحو الأمام على سلم التاريخ.
فما الذي يحدث على مسرح اللامعقول العربي هذا، ابتداء من مطلع العام (2011)؟
للإجابة ينبغي علينا العودة قليلاً إلى الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، من حيث المكان، وإلى النصف الأول من القرن العشرين من حيث الزمان.
فمع اكتشاف النفط في صحراء العرب، في الربع الأول من القرن العشرين، سارع الغرب لوضع يده على منابع «الذهب الأسود» هذا. ومع كل إشراقة شمس وحتى يومنا هذا، ما فتئ دور النفط يتعاظم باطراد حتى غدا شريان الحياة المعاصر، الذي لم يعد ممكناً تخيل حياتنا من دونه ولو للحظة واحدة! وما فتئ الغرب الأوروبي والأميركي يستشرس أكثر فأكثر في إحكام قبضته على هذه الثروة التي باتت لعنة حقيقية على أصحابها الفعليين (وتلك من المرات النادرة في التاريخ التي تغدو فيها ثروة أمة ما، لعنة عليها وسبباً لدمارها)! وفي سبيل إحكام هذه القبضة شهدت منطقتنا حروباً عديدة، وعواصف وزلازل سياسية شتّى، وانقلابات عسكرية لا تحصى، على امتداد قرن تقريباً، كان مفتاحها أو محركها أو خلفيّتها أو كلمة السر فيها هي النفط!
وكان من أبرز ما تفتقت عنه الذهنية الغربية في هذا الصدد، إقامة «دول» فوق آبار النفط (وسبق لأحد سياسيي بريطانيا أن صرّح قبل قرن تقريباً- أنه سينشئ دولة فوق كل حقل نفطي في الصحراء العربية)! حيث مجموعة من القبائل العربية، التي تعيش في فيافي الصحراء الموحشة، وفق نمطها الخاص وعلى طريقة البدو الرحل، وكما كانت الحال عليه منذ ألف سنة! أي إنها عملياً وفعلياً وواقعياً تعيش خارج التاريخ، وفي سراب الجغرافيا! وعلى هذا النحو نشأت مجموعة من «المشيخات» تحت مسمى دول، وتم تفويض كل شيخ قبيلة بتدبير الأمور في مشيخته، وسرعان ما تطور الأمر من شيخ إلى أمير إلى ملك! ولتتحول مشيخته إلى إمارة أو مملكة! ولكن وفي جميع هذه المراحل لم يحدث أن امتلكت هذه «الدول» من أشكال الشرعية الممكنة في هذا العالم، سوى «شرعية» الالتزام الكامل بأوامر السيد الغربي (البريطاني أولاً ثم الأميركي لاحقاً)، وظل التنافس الوحيد القائم بينها هو من ينال رضا السيد أكثر من جاره، ومن يقدم كل أشكال الولاء والطاعة له قبل الآخر!
وكبرت تلك الظاهرة بمرور الزمن، وراح العالم يراقبها بذهول: «دول» تعيش حياة البداوة الكاملة كما كان عليه الأمر قبل مئات السنين، فلا دستور ولا برلمان ولا أحزاب ولا نقابات ولا معارضة ولا تداول للسلطة.. ، ولا أحد يعرف شيئاً عن الكيفية التي تتم بوساطتها عملية توزيع الثروة الهائلة ولا أين تذهب مليارات الدولارات كل مطلع شمس! وشوارع واسعة تذهب في كل اتجاه، وسيارات فارهة تعبر الأوتوسترادات نحو اللا مكان! ومطاعم أميركية حديثة تقدم الوجبات السريعة وتؤمن المزيد من السمنة و«الانتفاخ» الجسدي لتلك الكائنات البشرية التائهة والعاجزة عن فهم ما يحدث حولها! وملايين البشر يزحفون من كل الأصقاع ومن مختلف الجنسيات، يراودهم حلم واحد، العودة بعد سنوات قليلة إلى بلادهم محمّلين بأكياس المال المنتفخة! حتى نشأ ما يمكن تسميته «الحلم الخليجي» الذي تفوق حتى على «الحلم الأميركي» الشهير!
وباختصار نشأت مدن حديثة للغاية، مكيّفة ومعقمة لدرجة الإبهار البصري، من حيث الشكل، أما لناحية المضمون فقد كانت مجوفة تماماً، وأكثر من ذلك فإنها مضادة للحداثة على طول الخط، وغارقة في مغطس التخلف الأبدي. فما زالت المرأة ممنوعة من قيادة السيارة في السعودية، وما زالت «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» تنفّذ قوانين الشريعة بصرامة، فالزاني يُرجم بالحجارة على الملأ، والإعدامات تتم بقطع الرأس في الميادين العامة، بوساطة السيف، والمعارض السياسي يُدفن في رمال الصحراء! والرجال يغيرون زوجاتهم كما يغيرون أحذيتهم!
وهذه المدن هي ذاتها التي تفرغ الكاتب «السعودي» الراحل عبد الرحمن منيف لرواية حكايتها الكاملة، بكامل مرارتها وسرياليتها، على امتداد خمسة أجزاء حملت هذا العنوان المعبر «مدن الملح»!

(2)
وفي مقابل تلك الكيانات المفتقرة لأي شرعية حقيقية، كانت هناك دول الشمال العربي، التي تضم أساساً ما يمكن تسميته المثلث الذهبي (العراق وسورية ومصر)، إضافة إلى دول شمال إفريقيا (تونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا والسودان) وهي دول تمتلك مشروعية تاريخية أساساً، إذ يمتد وجودها إلى آلاف السنين، وإلى بدايات التاريخ البشري المكتوب، وبالذات منها دول المثلث الذهبي، التي أهدت العالم حضاراته الأولى ومعتقداته الأولى ودياناته الأولى.. ، وفيها عاش العقل الإنساني مغامرته الأولى، وعلى ترابها إنما نهض الإنسان لأول مرة ليقرر أن يكون سيداً على مصيره ومحيطه، ويمكن القول بثقة واطمئنان إن كل إنسان في هذا العالم المعاصر مدين اليوم لهذا المثلث في الكثير الكثير من تفاصيل حياته الروحية والثقافية.
هذه الدول استيقظت في القرن العشرين بعد أن لفحتها رياح العصر وأيقظتها من سبات القرون الطويلة، وقررت أن تنهض لتقبض على مصيرها وتستعد للمضي نحو المستقبل، وراحت الحركات الأدبية والفكرية والفنية والسياسية تنهض هنا وهناك، وشهدت مدن كثيرة حراكاً مختلف الأشكال ومتعدد الوجوه، وشخصت الأبصار نحو مدن بعينها: القاهرة- دمشق- بغداد- بيروت- حلب.. ، لتغدو مع الزمن عواصم الفعالية النهضوية للعالم العربي بأسره: في السياسة كما في الصحافة والإعلام، في الثقافة ونشر الكتب كما في المسرح والغناء والموسيقا، في الفكر كما في الاقتصاد، في الجامعات كما في المعامل، في الأحزاب كما في المنتديات والنقابات والجمعيات الأهلية.
وسرعان ما باتت هذه المدن عواصم القرار العربي، وبالذات منها القاهرة- دمشق- بغداد. وبات مسلّماً بذلك لدى الجميع، من داخل المنطقة أو خارجها. وعلى الرغم من كل أشكال التنافس والصراع والخلافات بين أركان المثلث ذاته (وهو الصراع الذي وصل في حالات كثيرة إلى حد التآمر وتدبير الانقلابات من طرف على آخر) إلا أن البوصلة الحقيقية كانت هنا، وإليها ترنو الأبصار شاخصة، وخلفها تسير الأقدام دونما الكثير من النقاش، وعلى هديها تسير الجموع بقناعة تصل إلى حد الإيمان!
ومع الزمن تتالت أجيال عربية عدة، وقد تكوّنت ثقافتها مما أنتجته هذه العواصم، وقرأت روايات وأشعاراً ومسرحيات لمبدعي هذه العواصم، وتابعت صحافتها بظمأ لا يرتوي، واستمعت لإذاعاتها بشغف وترقب، وعلّقت آمالاً كباراً على قادتها السياسيين للنهوض بالمنطقة وتزعم حراكها، واستمعت لأغاني المطربين الكبار الذين أنتجهم المركز إياه..، وباختصار، تشكلت الذائقة الفنية العربية، والفكر والثقافة العربيين، والوعي السياسي والحضاري العربي، وفق تلك البوصلة.
وكان أن جوبهت كالعادة بسدّ منيع اسمه الغرب! الذي انتبه قبل الجميع وحتى قبل أصحاب المشروع ذاتهم لخطورة الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المراكز الحضارية العريقة لو ترك لها زمام مصيرها لتقوده بنفسها، ولو أتيحت لها إمكانية التحكم بهذه الثروة العربية الهائلة التي نبعت من أرضها!
وتتمة الحكاية معروفة للجميع. لقد راح الغرب يعمل بسرعة ودونما تردد، لوأد هذا الاحتمال المخيف قبل أن يبرعم ويثمر. وعلى امتداد القرن العشرين (وللدقة أكثر ينبغي علينا العودة إلى القرن التاسع عشر) شهدنا جولات كثيرة مما أطلقنا عليه سابقاً الاشتباك التاريخي بين العرب والغرب، وبتلاوين شتى. من التدخل العسكري والاستعمار المباشر، إلى ما نشهده اليوم من تطبيق لمبدأ (القوة الناعمة) بعد غزو فكري امتد لعقود طويلة! مروراً بالمنعطف الرئيسي في تاريخ هذا الاشتباك، نعني به قيام دولة إسرائيل (1948). فبدءاً من هذا المنعطف ستصبح حياة العرب كابوساً حقيقياً (وخاصة في دول الطوق أي المثلث الذهبي إياه) ولن تتاح لهم لحظة هناء واحدة بعدها. حيث ستعمل هذه الثكنة الغربية المتقدمة على تسميم حياة العرب بكل معنى الكلمة، وستقوم بكل ما من شأنه تهديم الروح العربية وتمزيق عناصر تماسكها وثباتها عبر التاريخ! وسيقتنع العرب يوماً بعد يوم أن صراعهم مع إسرائيل صراع وجود بالفعل، وأن المنطقة لن تحتمل، مطلقاً، وجود مشروعين يتواجهان بهذه الضراوة، وهما على هذه الدرجة من التضاد المطلق! وأن لا حياة لأحدهما في النتيجة إلا على جثة الآخر. وهو ما لحظه حتى الكتاب الغربيون، كالفرنسي جان جاك سرفان شرايبر الذي قال: (ما أن يلتقي عربي ويهودي، حتى يتحول أحدهما إلى جثة)!
ولعل أفضل من لخص جوهر الكابوس الإسرائيلي هو أحد صناعه، السياسي البريطاني الشهير تشرشل حينما قال: (لقد تخلصنا من السرطان اليهودي ورميناه في حلوق العرب)! وكان الكاتب الإفريقي (علي فروري) لاحظ، بدقة وذكاء، أهمية التوقيت في قيام إسرائيل فقال: ( لو تأخر قيام إسرائيل عشر سنوات أخرى لما كان لها أن تقوم أبداً، لأن المادة الطينية كانت قد تصلّبت)! مذهل هذا القول. لقد قام الصهاينة، بإعلان دولتهم في التوقيت الذي يمثل الفرصة الأخيرة لهم على سلم التاريخ، وبالضبط قبل انفجار الوعي القومي العربي الذي ألهب المنطقة في الخمسينيات، إنما بعد فوات الأوان!