الإنسان ليس وحده

"....بيد أنّ هذا التخلف بين الضمير و العلم لم يعد أمرا مستحيلا، يتلخص في موقف نزاع بين الطرفيْن، بل أصبح متنافيا مع وجود النوع الإنساني ذاته...."
مــــاكـ بن نبي

لقد اتخذ القرار حسب ما هو معروف في أوساط العوام، و هذا ما جعل العباقرة يأخذون على عاتقهم الحلول دون الوقوع في أفكار تشبه الكارثة، أو جملة كوارث، كلا على حسب توجهه، فالفكرة تولد من حركة بسيطة التأقلم، بين ما وجد قديما، و ما هو في حال تشكل، و هذا ما له من أثر على الكثير من الجوانب، فإنه يبقى عبارة عن زاد كثير الوهج، و غير قادر على استيعاب الظروف كلها، فخلجات النفس لها موقعها في العملية برمتها. لكنها لا تقوم به إلا بعدما أن تأخذ الشكل النهائي لذلك، و على الأقل هي قادرة على ذلك.

لعل و عسى أن تجعل المتكلمين يخرجون ما هو مفيد إلى ساحة التدبير، فكل ما هو مساق هو ذا دوامات كثيرة التواجد، و قليلة التنبيه، على سبيل وراثة الأسر، لكنّ الحظوظ تبدوا أبعد من أن تقارن نفسها بعمالقة الوجود، فسحر الموجود هو ليس من الوجود، وفق تفاصيل تختفي عن طريق السحر، و إنما هي شك بدأ من زمن، و تواصل عبر الرصد المعرفي مع زئبقية المواقف، حتى أنّ حالات اليقين هي مجرد تعبير قابل للتحوّل، كلما أراد فعل ذلك، لكنها لا تستجيب له في العديد من المواقف، و القائمة على سير روافد المعرفة، أو جرّ البلاء إلى عضوية جماعة التفكير على نحو يبدوا أنه اتخذ صيغة غامضة. 
فقيمة الإنسانية هي فعلا من قيمة أفرادها، و التي تستمد من قيمة شعورها الواقعي، و خيالها الأرضي، لأنّ البشر هو نموذج لروح واقعية، تقوم على أساس الرضا المكيّف و الملموس، و غير هذا يقود إلى نهاية جدّ كارثية، و من هنا علينا أن نفهم هذه الـــروح الواقعية أوّلا، و ماذا تمثّل؟

فالقصر الذي بناه الإنسان حول قلبه، هو في الحقيقة عبارة عن أوّل الخطوات باتجاه الحقيقة، و عليه فإنّ الفضاء و الأشكال التي كانت سائدة في العقول على شكل وعي، حسم منذ زمن، و هو نفسه الفضاء الذي قاد البشرية إلى الخلط بين الوهم و الخيال، و عليه بقيت الأحكام بعيدة عن التطبيق. فالواقع هو نابع من غير الواقع، و حتى الذي يبدوا لنا في أحيان كثيرة أنها وقائع، هي في الأصل غير ذلك، و إنما هي صناعة عقلية بامتياز، و عليه تقوم التناقضات عديدة بين ما هو مفهوم، و ما هو غير مبرمج، و هذا لا يصدر إلاّ من مخزن هائل للطاقة، قد لا يظهر بوضوح، لكنها تحرك جميع عناصر الحياة، سواء كانت مادية أم معنوية، و هذه الطاقة لها أشكال كثيرة، فمنها المحرّك، و منها المتحرك ليحرك، و منها الكامن الفاعل، و منها المسكّن الدافع، كلّ على حسب موقعه، و ضغطه و مدى اتساع دائرة تأثيره. حتى أنّ الأرقام لا تطابق في الحالات القصوى للطاقة مدى تقاربها مع ما هو موجود أو ما هو متحوّل.

و الطريقة التي تنشأ من بقايا و مخلفات العقول الموردة، هي باقية تحت تأثير هذه العقول، حتى و لو بعد زمن طويل من ولادتها. هذا و أنّ الفكرة التي تولد في المريخ مثلا، و تصدر إلينا، نحن سكان الأرض، تبقى فكرة مريخية، حتى و لو أجريت عليها تعديلات بالجملة، أو طال عليها الـزمان، و هذا لأنها صنعت في بيئة خاصة، أكسبتها صفاتها الأساسية، و مدتها بطاقة ذات نوعية معيّنة. فإن زالت هذه الخواص، و هذه المولدات، فإنها ستتجرد من صفة الفكرة، و تصبح مجردة ثرثرة تستهلك الوقت بلا فائدة. و على هذا فإنّ الإنتاج عنصر مهم في حسم موازين القوى، كما أنه يملك قدرة هائلة اقتصاديا في إدارة المكتسبات، فإنه يملك و بالشدة ذاتها أو أكثر القدرة على إدارة المكتسبات الثقافية و الرواسب الاجتماعية و التجديد الفكري.

".... أحب أفكارك بخصوص أخذ الخسارة بعين الاعتبار...."
جورج دابليو بـوش

المسافة الموجودة بين الفكرة و تجسيدها هي من الأمور الغير متحكم بها من قبل الفرد آليـــا، و إنما هي قضية يتدخل في تحديد توجهها الكثير من ردود الفكر، و هذا ينطبق على كل عملية ذهنية تتجاذب أطراف القصور لتصل إلى تقريب كبير بين الواقع و التخطيط، لأنها تملك القدرة على التوفيق بين ما هو منطوق عن تدبّر، و ما هو مجسد عن منطوق، بطريقة التتابع و التمسك ببديهيات التجسيد و تداعيات ما بعد التحقيق، فكما للدعاية مفعول السحر على الجماهير، فإنّ للفكر نفس المفعول على العمل التطبيقي، و انفصالهما هو انفصال للروح عن الأدوات الجسدية.

فالهدير الذي يخترق عباب البحار، و يخدر أمواجها، هو نفسه الذي يولد من العقل المؤثّر، و الذي جعل منه أداة قبل أن يحطم صنم الجمادات اليابسة، و من هذا قد تبدوا لنــــا أنّ الفكرة الأساسية للسعي هي: الحلم، بينما في صميمها هي عملية تنبعث من الاستفاقة على مدى التهيئة الجريئة، و القادرة على رصد المتحوّل و المتحرك معا، درجة بدرجة، و التفاتة بالتفاتة، و نجاعتها هي من مدى قدرتها على توجيه كل الهمسات و اللمسات التي تتوغل في التوجه. على حسب عزمها و قوتها الداخلية، أو الذاتية.

قد لا يبدوا لنا أنّ هناك أملا من جدوى تفكيرنــا، و هذا بسبب الإعراض عما نصنع، من قبل مجتمعات تختبئ تحت غطاء نومها الوهمي، و لكن مغاوير القدر تبقي ذلك النور القليل، و على الرغم من قلته، إلاّ أنه يهدي البشر، و يترك لليائس باب الرجاء، و للمتشائم باب العزاء، و للمؤمن باب الدعاء، لأنه أكبر و أسمى من أن يمجّد في قصائد الرثاء.

نعم !!!! هذه الحال لم تكن طبيعة الأمم، و لن تكون طبيعة لها أبدا، فهي تجعل الجماد موردا لها، و لكن هذا الأخير هو نفسه بحاجة إلى مورد، و على هذا فإنّ الإنسانية و إن سارت على نحو الانسداد في عنفوانها، إلاّ أنها ليست بيد الذين يتركون الحياة تسير تائهة، و ما تزاوج الأخلاق بالعمل إلاّ دليل على ذلك التسامح و التراحم الموجود في الصندوق الأسود لكل إنسان، حتى أنّ صورة العيش و التعايش من أوضح الصور في عصر مزقه الطموح، و استسلم على وقع ضرباته الضمير. و بين هذه التناقضات تأتي البشرى من شيطنة الإنسان التي انقلبت إلى أنسنة الشيطان، و هذه الأخيرة بدأت تكشف عن نفسها، و على أكثر من جهة، جاعلة من الاعتبار كل ما يدور في هذا العالم على أنه رهانات، و التي ما يزال الإنسان سيّدها. و لا توحي أيا منها، و حتى الآن، أنّ هذا النظام سيتبدل يوما، ما دام أنّه ما يزال صامدا في وجه أقوى الضربات التي شهدها التاريخ من بداية التفكير.

فالأمل لا يكفي إن لم نزيّن نتائجه بالعمل، و هذا أيضا عليه أن يقود أجزاء الفكر، و الذي تحكمه المشاعر و الوقائع، كلّ في موقعه و وقته.