فريق الممثلين الحالي الذي يؤدي أطول المسرحيات عرضاً في العالم يستعد الآن لإجراء تغييره الدوري - لا يشير هذا فقط إلى مناوبات تجريها مراكز القوة المسيطرة على مسارح العمليات الحربية.
مسرحية «مصيدة الفئران» التي تعرض حالياً في الطرف الغربي من لندن، وتلعب فيها الممثلة «جورجينا ساتكليف» دور البطولة، كانت قد ألفتها كاتبة عجوز أقامت في سورية هي «أغاثا كريستي». كل عشرة أشهر يتغير ممثلو المسرحية التي تحتفل، هذا العام، باليوبيل الماسي مع عيد ملكة بريطانيا. وفي الوقت الذي بدأ فيه الممثلون الحاليون العمل، كانت سورية قد أصبحت أول بلد على الإطلاق يتم إنقاذه بفضل ثالث فيتو مزدوج من روسيا والصين في مجلس الأمن الأممي.
كانت الكاتبة «أغاثا كريستي» وزوجها عالم الآثار؛ «ماكس مالوان»، قد استقرا ذات مرة في فندق بارون الخيالي بالقرب من محطة قطار الشرق السريع في حلب؛ ثاني أكبر المدن السورية. ومن شرفة غرفة الفندق رقم 215، تم إعلان الاستقلال المزيف لسورية، ذاتها، من دمية الاستعمار البريطاني؛ ملك العراق فيصل بن الحسين. رغم ذلك، لست متأكداً من أن غرفة «كريستي» في الطابق الثاني ما تزال تحتوي حتى على أثاث الديكور الفني الأصلي ذاته الذي شاهدته عندما زرت الفندق قبل ثمانية عشر شهراً. فمنْ يدري ما التحف الفنية، والمصنوعات اليدوية التي لا تقدر بثمن، التي نُهِبَتْ من حلب.. ومن مدينة تدمر... وغيرها من مدن سورية الأثرية؟ فندق بارون الحلبي حيث كان الجواسيس أثناء حكم العثمانيين يشربون الخمر، وحيث نزل لورنس العرب وشارل ديغول والزعيم المصري جمال عبد الناصر وغيرهم. هذا الفندق يهتز الآن بفعل أصوات القصف والتفجيرات القاتلة والناجمة عن الحرب بالوكالة التي تشن على سورية والتي ربما تكون أقد أودت بحياة نحو عشرين ألف شخص. في غضون ذلك، تُظهر قوى حلف شمال الأطلسي، بين الحين والآخر، شغفها لإطالة أمد الصراع، كما سبق أن فعلت في يوغسلافيا وفلسطين. إلى ذلك، لم يقبل قادة الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة البريطانية دعم محادثات السلام بين الأطراف المتحاربة على النحو الذي اقترحته الصين وروسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
في هذه الأثناء، سورية العلمانية، الواقعة في قلب الشرق الأوسط، تتعرض وعلى مدار الساعة، لأشرس حملة تشهير تقوم بها وسائل إعلام (التيار السائد)، وذلك في سياق بروباغندا منسقة كليةً وبطريقة سهلة ينفذها عملاء الاستخبارات الذين فوضهم الرئيس أوباما للقيام بهذه المهمة. عدم الكفاءة الذي أفضى إلى تسرب تفويض أوباما «السري» للاستخبارات لن يردع مراسلي الحرب غير المؤهلين عن التغني بخط الحزب الليبرالي الجديد على قنوات الأخبار التلفزيونية على مدار 24 ساعة. ولن يفوت على المرء تحميل الشبكات الأميركية أو البريطانية مسؤولية نشرات الأخبار التي تنقل احتفالات المتمردين الذين يضعون شعار «القاعدة» على أوشحتهم. يبدو أن واشنطن ترغب في تدمير سورية بصرف النظر عن الكلفة في الأرواح البشرية أو الفوضى الإقليمية العارمة، أو ضربة 11/9 الارتدادية. مع ذلك، امتنع المتحدث باسم البيت الأبيض «تومي فايتور» عن مجرد التعليق على تقارير تحدثت عن وجود دعم سري تنظيمي أميركي لتنظيم القاعدة «السري» على حدود سورية الشمالية، التي أقامتها تركيا والسعودية وقطر. وهل سيتم إبلاغ دافعي الضرائب الأميركيين بأن أموالهم تذهب إلى أيدي تنظيم القاعدة؟ وهل سيقال لحزام الإنجيل الجنوبي في الولايات المتحدة أن أسقفاً فرنسياً كاثوليكياً موجوداً على أرض الحدث يبلغنا عن عشرات الآلاف من المسيحيين السوريين الذين يُهَجّرون من حمص بسبب سياسة الأمر الواقع التي ينتهجها حلف الناتو؟
لقد اقتبست «أغاثا كريستي» عنوان «مصيدة الفئران» من المسرحية داخل المسرحية في عمل «هاملت» لشكسبير. فالأمير يريد أن يتعرف إلى طبيعة رد فعل الملك (كلاوديوس) حيال مسرحية تتحدث عن المشاركة في قتل الملك. وبالتأكيد، عندما يغادر (كلاوديوس) الغرفة، يعرف هاملت من الذي قتل أباه. لا تحتاج بكين ولا موسكو أو دمشق لهذه الأداة حتى تتحرى عن صاحب المسؤولية في عمليات القتل الجماعي الذي يواصل تقويض استقرار المنطقة. رغم ذلك، تتكرر المسرحية يومياً: في صيغة ردود أفعال متلفزة من سياسيين في واشنطن، باريس، لندن وبروكسل. لن تكون هناك مساعدة دولية للثوار الذين يقاتلون دكتاتوريين وحشيين في المملكة السعودية ومملكة البحرين – بل عوضاً عن ذلك، يجري تزويدهم بصادرات أسلحة، ودعوتهم لحفلات اليوبيل مع الملكة البريطانية، ومنح بعضهم جائزة (غران بري). في غضون ذلك، بالنسبة لسورية، ثمة دعاية مقنّعة بستار «الصحافة»، وُضِعتْ في خدمة المتمردين الإسلاميين الذين يقاتلون النظام في سورية. هناك بعض الانتقاد المسرحي المثير مثل ذلك الذي وجهته «مارغريت ليتفين» من جامعة (يل)، التي لاحظت أن مجموعة العروض العربية لمسرحية هاملت بعد عام 1975، ظلت تضع «كلاوديوس» في المركز، مؤكدة قوته المتأصلة التي لا تقاوم. وكان لذلك أثره في تحويل شخصية هاملت إلى تجسيد سخافة وعدمية الفعل السياسي وتشاؤمية الإرادة في العالم العربي. وللمفارقة، فإن الممثلة جورجينا التي تجسد شخصية «مولي رالستون» في «مصيدة الفئران» تسترسل في تأملاتها قائلةً: «ربما لا يمكنك أن تثق بأحد - ربما يكون كل الجميع غرباء». والحال أن مثل هذا التأمل يجده صداه في أوساط المراتب المفجعة لأولئك المنشقين السوريين الذين يدركون باطراد أن التمرد على النظام في سورية قد أخذ منحى أكثر قتامة، جعلهم يعتقدون بعدم إمكانية إنقاذه في ظل الظروف الراهنة. إنك لا تستطيع الوثوق بأحد.
ربما لا ينبغي على المرء أن يستغرب الأمر. فقد بدت سورية منذ تقرب الغرب في مرحلة ما بعد النظام الحالي مثل المكان الهلامي؛ حيث علّمت النخب الثرية والليبرالية أولادها في الخارج، فقط ليعودوا ويسعوا إلى نشر الفوضى والخراب مع أفضل النوايا. وفي محادثات ليست للنشر في دمشق مع ساسة كبار، يحصل المرء على انطباع مفاده أنهم لم يكونوا يدركون أن الإصلاح الاقتصادي الليبرالي كان حصان طروادة. أما الذين تعلموا في الخارج، فيأتون ويغلب عليهم الظن أن الخصخصة ما هي إلا دواء عالمي يمنعه النظام الحالي في سورية. حسناً، لقد باتوا يعرفون الآن ما الأجندة الحقيقية، وأن الجميع صاروا غرباء. إلى ذلك، تقف الأزمة الاقتصادية الغربية لتكون درساً كافياً لما كان سيفضي إليه التحرير الاقتصادي في سورية. القذافي ارتكب الخطأ ذاته.. انظروا ما حصل معه. والحال أن لدى القيادة السورية إدراكاً أفضل للتاريخ في كبح جماح البرامج الاقتصادية الليبرالية الجديدة، لكنها شعرت حتى النخاع بأن مدنها كانت ذات مرة من عجائب العالم.
فقط مباحثات سلام شامل ينخرط فيها كل اللاعبين الإقليميين يمكن أن تبدأ بوضع حد لما يجري في سورية. وتبقى محاولات الناتو لإدخال التعصب الطائفي إلى سورية كما سبق أن فعل مع العراق - حيث إعلام «التيار السائد» يكرر كالببغاء العبارة القائلة إن البلد يدار من العلويين- وهذه على وجه الخصوص محاولة سفيهة في بلادٍ استوعبت عدداً من اللاجئين بالنسبة لحصة الفرد أكثر من أي بلد آخر في العالم. هي بالفعل أرض خصبة لزرع بذور فكرة «فرق تسد» الكولونيالية، لكن يبدو حتى الآن أن أفظع الجرائم الوحشية المدعومة من جانب الناتو يرتكبها متمردون أجانب. مع ذلك، يتعين على بكين وموسكو التصرف الآن. وبغير ذلك، وإذا ما بقي النظام السوري، أو سقط - وهو أمر بعيد الاحتمال - فستكون التطورات المتكشفة في سورية بمنزلة «مصيدة فئران» للقوى المهيمنة التي تنفث البؤس في منطقة الشرق الأوسط وما بعدها، وخاصة لأولئك المقيمين في ناطحات السحاب الأميركية.
• أفشين راتانسي: مقدم برنامج سياسي ساخر عنوانه «المعايير المزدوجة» يُعرض على قناة Press TV الإيرانية.