أنيطت مهمة اجراء الانتخابات - بموجب الدستور - بالهيئة المستقلة للانتخابات، وبالتالي فهي الجهة الوحيدة المكلفة بمتابعة "الملف” الانتخابي ابتداء من اعداد السجلات للناخبين وتسجيلهم الى ادارة "الاقتراع” ووضع التعليمات الضرورية لسلامة الاجراءات وانتهاء بمراقبة الانتخابات ورصد سيرورتها واستقبال الطعون والاعتراضات عليها.
إذن الحكومة لا علاقة لها بهذا "الملف” الا من باب حث المواطنين على المشاركة، وتسهيل عمل "الهيئة” والتنسيق معها فيما يتعلق بالاجراءات الفنية التي تتطلب ضمان انجاز العميلة بدقة وسرعة وبلا معوقات.
قد نختلف على قانون الانتخاب ونظامه، وقد ينحاز البعض الى المشاركة أو المقاطعة، وقد يشعر آخرون جراء خيبة "التجربة” الانتخابية فيما مضى بفقدان الثقة وبالشك في اجراء انتخابات نزيهة، لكن لا بد ان نعترف بأن تشكيل هيئة مستقلة للانتخابات كان انجازاً، وبأن تمكينها من "بناء” الثقة لدى المواطن، بالمؤسسات الوطنية أولاً، وبامكانية اجراء انتخابات نزيهة، مسألة ضرورية، لا يهم - بالطبع - أن نحكم على "الهيئة” الآن، فهي تحاول ان "تؤسس” وتبني على انقاض "فراغ” كبير، ولا يهم اذا ما انجزت الانتخابات هذا العام أو أجلتها الى العام القادم، فهي ليست مسؤولة عن "المناخات” السياسية التي أفرزت القانون وأصابت المزاج العام "باللامبالاة” والتلكؤ وربما العزوف عن المشاركة، وانما المهم ان تنجح في تحرير "ملف” الانتخابات من الاخطاء التي التصقت بها، وان ترسخ لدى الناس قناعة "العدالة والنزاهة” في كل الاجراءات التي تتخذها، واذا ما تحقق ذلك فاننا سنكون للمرة الاولى أمام "مؤسسة” وطنية محترمة وموثوق فيها، وأمام "ضمانات” حقيقية لاجراء انتخابات محصنة من اللعب والعبث وسوء الادارة.
لقد وجدنا أنفسنا في السنوات الماضية أمام "موجة” من تجريح المؤسسات وادانتها، دفعنا اليها حكومات قصرّت في أداء واجبها، وبرلمانات ضعيفة وغير قادرة على ممارسة صلاحياتها، ومسؤولون "اخطأوا” وتعاملوا مع البلد بمنطق الاستهانة، لكن من واجبنا الآن أن ننتبه الى خطورة هذا "التجريح” وخاصة فيما يتعلق بمؤسسة جديدة مثل "الهيئة المستقلة للانتخابات”، لا دفاعاً عن أشخاصها أو عن "الانتخابات” الملتبسة، وانما دفاعاً عن "الفكرة” والمهمة وعن "المؤسسة” بحد ذاتها، فهي أولاً ما زالت ملتزمة بواجبها، وهي ثانياً وسيلتنا الوحيدة لبناء الثقة بالعملية الانتخابية، وهي ثالثاً ليست ملكاً "للحاضر” المختلف عليه، وانما "للمستقبل” الذي نتطلع فيه الى انجاز قانون انتخاب توافقي، واجراء عملية انتخابية نظيفة ومقنعة ووفق المعايير الدولية.
لا شك بأن مهمة "الهيئة” صعبة، وبأنها تدرك بأن "التركة” ثقيلة، وبأن "انجازاتها الفنية” ستصطدم بجدران مناخات سياسية ملبدة بالغيوم، وبأن "بناء” الثقة ليست مجرد قرار أو وعود وتصريحات، لكن المهم ان تبدأ وتتمسك بصلاحياتها وتقفل الأبواب أمام اية محاولت للتدخل أو التجريح، وان تفتح صدرها للنقد ولا تخجل من الاعتراف بالخطأ وتصحيحه.. فاذا كان يؤسفنا ان السياسة اخذتنا الى مربعات الاختلاف والتشابك حول "الانتخابات” فان عزاءنا في وجود "هيئة مستقلة” تكون قادرة على ادارة أية انتخابات بنزاهة.. وهذا بحد ذاته "حق” يفترض ان نتمسك به وندافع عنه أيضاً.
صحيح، لا يمكن ان نقسم العملية الانتخابية بين قاعدة سياسية خرج منها القانون والنظام، وبين "أرضية” اجرائية فنية تتولى الهيئة البناء عليها، فالعملية تكاملية والصورتان وجهان لعملة واحدة، لكن ان نخسر على الجبهة الاولى أفضل من أن نخسر على الجبهتين، وان نضمن من نأتمنه على البناء أفضل من أن نجد أنفسنا أمام "قانون” عصري ثم لا نجد من يلتزم بتنفيذه ويطئمننا على سلامة مراعاة ما يتضمنه من مقررات واجراءات..