هيبة الدولة، هيبة الأمن
عائدة من بيروت أقف في طابور الجوازات، وعشرات مثلي ينتظرون بشكل طبيعي. رجل يحمل بيده حوالي ستة جوازات، ووراءه رجلان وثلاث نساء، يصرخ بعالي صوته مخاطبا رفيقه وعيناه تجحظان غضبا: "هاك هوي الوكيل، هونيك هونيك، روح له." الآخر يهدؤه : بلاش يا، خلاص. وهو يعود إلى الصراخ: لا. قال شيئا عن السوريين الذين ياتون من بيروت، بدي فهمه. رفيقه يمتثل، والضابط يأتي إليه قائلا بملل: يا أخي قدم جوازك. كان جميع المسافرين ينظرون باستغراب: لو أننا راينا شرطيا يخاطب مواطنا بهذه الطريقة الاستعلائية التي تقدح شررا، لأدنّاه، وربما تدخلنا لنقول: عليك ان تحترم الناس. وربما إذا كنا من اهل الفصاحة لألقينا محاضرات في حقوق الإنسان والدولة الحديثة وفظاظة رجال الأمن وضرورة تأديبهم!! وربما وصلنا بالنتيجة إلى انه لا بد من الربيع العربي للخلاص من هذه السلطة. لكن أن نرى مواطنا، بل ولاجئا يكاد يمسك بخناق ضابط الأمن لمجرد أنه سمعه من بعيد يعبر عن حذره من هؤلاء القادمين من لبنان، فإنه لأمر يثير الاستغراب وأكثر من سؤال، خاصة أن هذا يحصل بعد يوم واحد من أحداث عنف وشغب دامية تمتد جذورها إلى اشهر وتكاد تنقل الحريق السوري إلى بلاد الارز، بعزيمة اهل البلاد ولكن، ايضا، بمشاركة السوريين والوافدين من كل العالم لللمساهمة في اشعال الفتنة. بينما لم يعد احد يخفيه لا في العالم العربي ولا في الخارج، سواء أكانوا من مسؤولين أم من محللين، عن العمل الحثيث لتصدير الأزمة السورية ببعدها العسكري إلى لبنان والأردن والعراق. والأسئلة الأكثر خطورة في هذا السياق تبدأ بواحد حول مصدر هذه القوة التي يتصرف بها شخص يفترض أنه لاجئ وأنه يتعامل وفق ذلك مع الدولة المضيفة، أو على الاقل أنه يتعامل مع المسؤول الأمني في معبر حدودي بأدب واحترام لوظيفته قبل شخصه. فقد جربنا ذلك، يوم هربنا من الحرب الاهلية اللبنانية، ولا أعتقد ان احدا كان يسمح للبناني يومها بالتطاول على سلطة قانونية. غير ان السؤال الثاني وأكثر أهمية هو: من أين تنبع هذه السلطة على السلطة ؟ وإلى ما يستند هذا الرجل الذي قدم بمظهر لا ينم إلا عن شخصية (بلطجية) بينما ترتدي زوجته فوق ما تبقى من وجهها، نظارات من ماركة باهظة الثمن؟ وكيف سكت ضابط المطار متجاوزا عن شغبه بعبارة قدم جوازك، وكانه يقول: وخلّصنا من شرّك. لقد ناضلنا عقودا ضد قمع "الشرطي" بما حملنّاه إياه من معان مجازية، ولكن علينا أن ندرك اليوم، وبكل وضوح أن أضعاف الأجهزة الأمنية والعسكرية في بلد ما، ما هي إلا وسيلة لتفكيك الدولة، تفكيك ندفع ثمنه نحن كمواطنين فردا فردا، ولأجيال قادمة. وبذا لا يكون تغاضي الدولة عن سياجها إلا عملية انتحارية، لا تشبه تلك التي ينفذها مناضلون أو مقاومون لأجل أهداف عليا، إنما تشبه سير الشاة إلى الذبح. فلا دولة من دون هيبة للدولة، ولا هيبة للدولة من دون هيبة قواها العسكرية. فما قيمة السياسة إن لم يكن لها جيش يحميها ويمنحها ثقلها؟ وما قيمة الاقتصاد إن لم يكن له أمن يحمي حركته؟ وحتى القضاء الذي يعد معنويا وأخلاقيا أعلى سلطة في الدولة، ما قيمته من دون ضابطة عدلية وقوى أمنية تجعل من كلامه فعلا؟ قاعدة تنطبق على كل دولة في العالم، وقد عشنا في الغرب طويلا ورأينا كيف تقدس دولة كفرنسا مثلا جيشها وقواتها الأمنية وحتى أجهزتها السرية، لأنها تعرف أنها رموز سيادتها وضمان بقائها ووحدتها، ولكنها تقدس إلى جانب ذلك ايضا حقوق الإنسان وحقوق المواطن في إطار دولة القانون. غير أن هذه القاعدة العامة تتخذ بعدا اخر عندما يكون البلد، كما هو حال البلدان العربية - خاصة الأردن ولبنان حاليا – مهددا بسيادته، مهددا بأمنه الوطني والفردي، مهددا بوجوده ووحدته، ومهددا بموقعه على خارطة الشعوب المتحضرة، عبر امتداد عنف لا يهدف إلى اقرار الحريات والعدالة السياسية والاجتماعية ودولة المواطنة، مما لا معنى للديمقراطية بدونه، بل يهدف إلى تدمير مؤسسات الدولة وتحويل الناس إلى تجمعات متقاتلة بهمجية تحقق التدمير الذاتي الذي يعيد البلاد إلى ما قبل المجتمع وما قبل الدولة، إلى العصر الحجري الذي هدد به وزير الخارجية الأمريكي يوما الشهيد – الحي وزير خارجية العراق، طارق عزيز. |
||