الحرية بدون احرار

إنّ الحرية كلمة رنانة تستهوي من لديه طرح يخالف طروحات من حوله أو يخالف قيم مجتمع يعيش فيه أو يؤمن بمبادئ تناقض مبادئ الآخرين. وفي غمار الحرية التي جعلته يطرح تلك المخالفات وينتقد تلك القيم أو يصرح بمبادئه فإنه يمارس إقصاء الآخرين ويسلبهم حريتهم ويتعدى على خصوصياتهم. ولا يرضى أن ينتقدوه أو يناقشوا أفكاره، لأنّ "الحريةبدون احرار " ـ في مجتمعاتنا ـ مفصلة على مقاس محدد لا يستطيع كل واحد أن يلبسها أو يستعملها، فهي خاصة لفئة تدعي أنها نخبة تمتلك من المقومات لتمارس الحرية وتطرح الآراء، وغيرها يجب عليه أن يسمع لها وينقاد لطرحها، وإن تجرأ غيرهم وناقض طرحهم أو رد عليهم فهو إنسان متخلف رجعي، لا يريد تقدم المجتمع ونهضته.

للإنسان، هدف المرسلين وأوصيائهم عليهم السلام وغاية المصلحين الصادقين، وغاية الدين لرب العالمين.. وهي كذلك مطلب إنساني ملّح، ولكن ليس له واقع في تاريخ الإنسانية إلا ما ندر.. والحرية حلم الملايين من البشر من الأولين والآخرين، مثلما هي شعار السياسيين وطلاب الحكم.. والحرية فخ الخبثاء وخيمة الشيطان الوردية.. وهي موضوع الفلاسفة والمتكلمين.. وفيها قصائد الشعراء، وهي سياسة المنتفعين، وهي كذلك عدوة الجبابرة والطغاة والمستكبرين.
فالأنبياء إنما يسعون لتحرير الإنسان من عبوديته لغير الله تعالى ومن استغلاله من قبل أخيه الإنسان، لأن الدين لله تعالى لا يتحقق إلا مع الحرية والاختيار العقلي، فإذا سادت الحرية تخلص الإنسان من الشرك والعكس صحيح. وإذا تحقق الدين لله تعالى فشا العدل والمحبة بل والإثرة بين المؤمنين.. لأن حرية النفوس من شيطانها فيه ود وائتلاف.
.. وإن كانت الحرية من احب المعاني إلى النفس، فإن الاثرة بالحرية من الإنسان لأخيه الإنسان يعتبر من اجل وأسمى المعاني الإنسانية.. وكأن هذا السمو في الاثرة بالحرية من الشموخ بحيث لا يطاول، يحلم به البشر دوماً من الأولين والآخرين وتكتب في معانيه القصص والروايات، ويقرأونها في مجالسهم وهم يعيشون في ظل الثالوث المقيت في مجتمعاتهم، الظلم والشرك والجهل، وكأن لا مخرج لهم منه.
وفي لمة هذا الثالوث المقيت في المجتمعات الإنسانية، رفع السياسيون الحرية شعاراً ومطلبا يداعبون به مشاعر الناس ويدغدغون أحلامهم في أن يعيشوا هذا المعنى السامي في حياتهم.. حتى إذا نجحوا تسلطوا بما تميزهم به معاني القيادة في مجتمع اللمة واعرافها فدخلوا الثالوث صاغرين: ذلك لانهم اصلاً إنما رفعوا شعار الحرية، ليس لانهم أدركوا معانيها وارادوا بها وجه الله تعالى بل زرعوها مغرماً وحصدوها مغنما.
وكذا فالحرية بما هي إرادة النفوس وحياة العقول وغذاء الأرواح. فإن فتياناً ورجالاً وفتيات ونساء يقصدون فخاخ ينصبها الخبثاء تحمل لافتات الحرية.. يأتونها هربا من مجتمعات اللمة، وما أن يدخلوا تلك الفخاخ حتى يسقطوا ضحايا، بل ويصيرون سادة الثالوث لإسقاط الآخرين.
والحرية بما هي أمل المظلومين في مجتمعات الثالوث المقيت، فإن الشيطان يجعل منها خيمة وردية تجذب المظلومين إليها، فإذا دخلوها بهروا بألوانها الجذابة وشعروا بالفوقية إزاء هذا التفوق، ففقدوا إرادتهم، واختيارهم الذي ظنوا أنه فيه الحرية.. فإن أدرك الكبار منهم غدر الشيطان بعد حين، فإن الصغار قد استلهموا روحه وتربيته، وانظموا إلى صفوف الثالوث المقيت.
والحرية بما هي من الأهمية بمكان في معاني الإنسانية، فهي موضوع الفلاسفة وجدل المتكلمين، فإن لم يكن هؤلاء قد اخلصوا الدين لله تعالى، ولم يكن لهم من كلام الله دليل ولا من الأمناء عن الوحي مرشد، فانهم قد ضلوا وربحهم الثالوث، فقد اسهموا في إعطاء الأسماء لغير معانيها ما انزل الله بها من سلطان.
والحرية أمل وحلم، يجد الشعراء فيها معاني تناسب الأوزان والقوافي قد تكون بعيدة عن معاني الحرية التي هي في إرادة الأنبياء طاعة لله وحده وتحرراً من الهوى والجهل، وبذلك يسهم الشعراء هم الآخرون في الغناء من اجل بطل الحرية والتحرر زعيم الثالوث.
والحرية في كل هذه الحالات وغيرها أمل يتحقق منه الألم.الكاتب جهاد الزغول