اتفق مع من يذهب بالقول: إن معظم الناس منشغلون بأوضاعهم المعيشية منصرفين عن السياسة وأهلها، وأرى صحة في من يقول بان الحراك الشعبي ينطلق من دوافع البطالة والفقر والسخط على الفساد ، لكن وجهات النظر هذه لا تقلل أبدا من قيمة الاصلاح السياسي لسببين .
١- ان التاريخ يعلمنا بان اساس تفجير الثورات والاحتجاجات يعود الى اسباب اقتصادية فالشعوب تعيش بطمانينة عندما تكون قادرة على تامين العمل والدخل المناسب الذي يجلب الرضا الى نفوسها .
٢- ان السلطة السياسية الحكيمة هي التي تستطيع الحد من الاثار السلبية للبطالة والفقر على استقرار الدولة والمجتمع بإجراء الاصلاحات التي تشيع الرضا والأمل بين الناس وفي مقدمتها قطع دابر الفساد.
لم ينطلق هذا الهيجان الجماهيري الذي رأيناه في مصر وتونس والبلدان الاخرى من دور ومقرات أحزاب المعارضة ولا من منتديات الساخطين على السياسات العامة انما أتى من صفوف المواطنين الذين كانوا يوصفون باستطلاعات الراي الرسمية بانهم لا يبالون بالشأن العام ولا بثرثرة الصالونات ، وتظهر المآلات التى وصلت اليها الأوضاع في مصر وتونس ، على سبيل المثال ، ان أحزاب المعارضة نجحت في امتطاء الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي لتصل الى السلطة ، وهو نجاح ما كان ليتحقق لو ان النسبة الكبرى من المواطنين كانت تعيش في مناخ سياسي يسمح لها بالمشاركة في الاختيارات السياسية والاقتصادية وبالتالي تشعر بدورها في تحمل مسؤولية خياراتها عند صناديق الاقتراع بنفس قدر تحمل الحكومات، او انها على الاقل تشعر بان رأيها كان محل احترام عند اتخاذ القرارات في ظل مناخ حقيقي من الحريات العامة .
عملية تقييم اهتمامات الناس وانشغالاتهم بناء على ما هو ظاهر من الممارسات اليومية للمواطن العادي التي تظهر عدم مبالاة بالشأن السياسي العام، كما تعودت على استنتاجه مراكز الدراسات والاستطلاعات الرسمية، قادت في اغلب الاحيان الى استخلاص نتائج وضعت على طاولة السياسيين تدعي ان الاصلاح لا يعني الأغلبية، كان هذا مسكوتا عنه قبل الربيع العربي لكن استمراره اليوم يعكس حالة إنكار للواقع قائمة على قصور في القدرة على قراءة الاحداث الكبرى التي يشهدها العالم العربي منذ ١٩ شهرا وانهت كثيرا من البديهيات والمسلمات الرسمية في قراءة الواقع الشعبي عاش عليها النظام العربي اكثر من ٦٠ عاما .
انظروا الى ممثلي الثورات والاحتجاجات في زمن الربيع العربي ، خاصة الميدانيين منهم صانعي الاحداث وليس المتسلقين عليها ، ستجدون شبابا لم يسبق لاحد ان ميز وجودهم في اي مجتمع وهم بالتأكيد من بين صفوف الاغلبية التي كانت مراكز الاستطلاع والدراسات الرسمية تصفهم بانهم غير مبالين بأحاديث وشعارات المثقفين عن الديموقراطية والإصلاح السياسي .
باختصار لا يعتبر سكوت الأغلبية او لامبالاتها علامة رضا ولا تعبيرا عن قلة الاهتمام بالشأن العام ، لقد ثبت لكل صاحب بصيرة ان العاصفة تنطلق من وسط قاعدة الصمت واللامبالاة العريضة ، وبان التردي في المعيشة واتساع البطالة وزيادة الفقر وشيوع الفساد لاتحل بمحاولات الفصل القسرية بين الاصلاح السياسي وبين الاصلاح الاقتصادي انما بالعمل عليهما معا لان الاصلاح الشامل هو الممر الوحيد لاستعادة ثقة الأغلبية (اللامبالية) والأقلية المسيسة من اجل تجاوز المراحل الصعبة والأزمات الراهنة .