حُط في الخرج!
وفي الخُرج كثير مما يقال ولا يقال، فالفم امتلأ دما قبل أن يمتلىء ماء!
في الخرج، هذا الضباب الذي يلف حياتنا، لا يبدأ من اختلاط الأولويات، ولا ينتهي عند تلبس الشخصيات المختلفة بلبوس ليس لهم، بقليل من الصراحة، في مسألة «الحراك» مثلا، ثمة مندسون لديهم أجنداتهم الخاصة وجدوا في هيزعة الشارع متنفسا لأحقاد أو ثارات قديمة، أو فواتير شخصية حل أوان دفعها، فترى صوتهم أعلى من غيرهم، وباتوا يُحمّلون هذه الظاهرة الطاهرة ما لا تحتمل، وهذا شيء طبيعي في الحراكات الشعبية، لكنني على ثقة أن لديها القدرة على لفظ هؤلاء وكشفهم، كي لا ينحرف هذا الحراك الطيب إلى حواف الهاوية، فيصبح ثمن التغيير لا قبل لأحد بدفعه، لأنه مفتاح لولوج عالم غامض من الفوضى، غير الخلاقة طبعا، وبمناسبة الحديث عن الحراك، هو قطار انطلق ولا مستقر له إلا أن «ينيخ» في مربضه، شاء من شاء وأبى من أبى، وغير هذا الكلام .. حط في الخرج!
ومما في الخرج أيضا، ما قيل عن الصحف اليومية من افتراءات، أنا هنا لست معنيا إلا بصحيفتي «الدستور» وأشهد الله أنها ساحة وطنية للسجال الوطني، والتعددية الرشيدة، وهذه شهادة شخصية أسأل عنها يوم الدين، صحيح أن ثمة ظروفا معينة تضطرنا أحيانا للنزول تحت الموجات العالية، لكن قاماتنا تظل منتصبة، نقول ما يجب أن نقوله في غالب الأحيان، ومن الظلم الفادح أن ننال من صرح وطني كهذا، يعكس روحا وثابة، تعكس وجدان الناس، وأتحدى من يقول غير هذا أن يذهب إلى سجل الكُتاب كي يعرف أن التنوع الموجود لدينا يقطع لسان كل من يجترىء على القول أننا مجرد أبواق للحكومات، وأي كلام خارج هذا السياق ضعه في الخرج!
ومما في الخُرج أيضا، وهو كثير، ما يقال أن الربيع العربي صناعة أمريكية أو إسرائيلية، فهذا أكثر ما يغيظني حين أستمع لبعض العُقال من أصدقائي، حين يدافع بعضهم عن أوثان سياسية عفا عليها الزمن، وتجاوزها التاريخ، بل كبر عليها أربعا، فالربيع العربي اكثر الظواهر المعاصرة إشراقا وطهرا في حياتنا، رغم كثرة ما يقال عمن دخلها من قناصي الفرص ومستثمري السوانح، وهذا أمر طبيعي ومتوقع، فبلادنا كانت ولم تزل مسرحا للتدخلات منذ كانت، وموسم الربيع ليس استثناء، ولكنني على ثقة أن هذا الموسم سيؤتي أكله الطيبة، ولا أدل على هذا من الذعر العبري من التغيرات التي جاءت بها هذه الريح الطيبة، غير أننا علينا أن ننتظر ما لا يقل عن خمس إلى عشر سنوات كي نرى الثمار الحقيقية للبذور التي يزرعها هذا الربيع، ومن يحدثك بغير هذا الكلام، قل له: حط في الخرج!.