سلوكيات تثير التساؤل : أي أردن نريد ؟

ظواهر اجتماعية وسلوكية مستجدة تثير الاستغراب ويصعب تجاوزها بدون ان نتوقف عندها. مثل هذه الظواهر وجدت في السابق لكنها لم تثر الاستغراب إما لندرة وقوعها او لان المجتمع كان اكثر انسجاما وترابطا مما هو عليه اليوم. وجود معظم هذه الظواهر يرتبط بالحالة التي نعيشها منذ ان بدأ ما يسمى بالربيع العربي وبالجانب السلبي من هذا الربيع متمثلا بظهور ثقافة مجتمعية تتناقض مع الإصلاح الشامل الذي يقود الى دولة القانون باعتباره المرجعية الوحيدة للجميع .

نرى مسيرات في الشوارع ضد الفساد وعندما يقترب القانون من التحقيق مع مسؤول ( مجرد تحقيق ) تثور ثائرة عشيرته التي تنتصر لابنها معتبرة ان الامر إهانة لها، ونرى شخصا يعتقل لانه يخالف القانون فينسب حتى في وسائل الاعلام الى عشيرته وليس الى الحراك السياسي او الحزبي الذي ينتمي اليه فيتجمع أبناء من عشيرته مطالبين بالإفراج عنه بمظهر من الفزعة التي كانت في عهد ما قبل الامارة والمملكة ! . ونرى قوات الأمن تعتقل مجموعة من الخارجين على القانون فيقود ذلك الى هجوم من أبناء عشيرتهم على مركز امني للإفراج عنهم وهو نوع من الفزعة أيضاً، ويكون من تداعيات الحادث ان ينتصر أقرباء رجل الأمن المعتدى عليه فيطلبون الحق العشائري لابنهم من العشيرة الاخرى ! .

أي أردن نريد ؟ اذا كان البعض يفهم الربيع الاردني بتبني وتكريس مثل هذه الممارسات فهذه اقصر الطرق التي تفتح الباب لكل من يريد بالبلد وأهله السوء من المتربصين، ولنتذكر دائماً ان الشعب الاردني لم ينجح في بناء الأردن الحديث على مدى ٩٠ عاما بغزارة موارده، ولا بعرض أنهاره وسهوله ووفرة حصاده ، انما بوعي وعزيمة الأجيال من الاباء والاجداد الذين نجحوا في إنجاز بناء دولة من الصفر، ولم تكن العشائر يوما في تاريخنا الحديث جزرا معزولة عن الدولة والمجتمع ، انما كانت أداة النهضة ، وأول خطوات الدولة الحديثة كان انخراط أبناء العشائر جميعا في الجيش العربي ، المؤسسة التى علمت منتسبيها ان الوطن والقانون هما الاساس ، وليست قصص الغارات وميراث الدم . هذه المؤسسة التي ظلت أمثولة لمراحل بناء مؤسسات الدولة جميعا.

حتى اليوم نقرأ في الصحافة الاجنبية وصفا للشعب الاردني كنا نسمعه قبل ذلك وعند كل تطور يقع في البلاد، وهو الزعم بان الاردنيين مجرد عشائر بدوية وليسوا شعبا وان ما يطالبون به من الربيع العربي هو الحفاظ على المغانم والمكاسب التي يتلقونها من الدولة على حد زعمهم ! . وهذا نص يتردد في كل حجة صهيونية عن الوطن البديل . ومع الأسف نرى بين صفوفنا من يساهم بغير قصد في تكريس هذه الصورة المزيفة عن الأردن والأردنيين بتصرفات تعطي الانطباع للآخرين باننا لسنا شعبا انما مجموعات من البدو المتشبثين بالعادات القبلية القديمة ويريدون من خلالها حصول كل عشيرة على حصتها في ادارة شؤون الدولة والمجتمع . وهذه قناعات تناقض واقع نجح فيه الاردنيون كشعب في اقامة وبناء دولة حديثة تقوم على الدستور والقانون عمرها يقارب القرن وعمر دستورها الديموقراطي نصف قرن ، نجاح تحقق وسط دول إقليمية لم تعرف الاستمرارية والاستقرار السياسي .

السلوكيات التي ذكرت تنم عن محاولات اصحابها اعادة انتاج ثقافات مبعثرة وتقسيمية على حساب الهوية الوطنية الجامعة التي انتصر فيها الأردن ، دولة وشعبا، على كل التحديات .والسيئ في هذه التصرفات انها تقع في ظل ظرف محلي إقليمي يشجع حالة تهديم الدول وتقسيم الأوطان . ومن المهم في هذا المنعطف التاريخي الذي تمر به المنطقة ان نبحث عن كل ما يشد عضد الدولة ويكرس دولة القانون التي نريدها هدفا للاصلاح ، ولا ننسى ان سيرة العشائر في الأردن لم تكن يوما الا محركا لوحدة الاردنيين، وقوة دفع لتطور أبنائها في ميادين التربية والعلم كما انها كانت دائماً عامل تآلف وتكاتف اجتماعي عونا للقانون وليس عونا عليه.