لم يكن الإنسان الأول يعلم أن الأرض كروية الشكل، ولكنه أدرك بحدسه، أن كروية الأشياء لن تمنحه زاويةً للاختباء، ولهذا تعلم باكراً أن يواجه مخاطر وشرور هذا العالم!، فالتأم متجمعاً على هيئة قرى صغيرة، فالذئب لا يعدو إلا على العنزة البعيدة عن (الشلية)، وحيث أن الفرد الوحيد من الصعوبة بمكان أن يعيش بلا آخرين!.
لكن عالمنا اليوم بات يوصف جزافاً بأنه قرية صغيرة!، ليس لأنه متعاون متحاب متآلف متراص بالعطف والسكينة، أو لأنه وادع لا ضوضاء تقلقه، ولا ضجيج يقض مضاجعه، ويجعلها منزوعة الأحلام، بل يوصف بالقرية؛ لأن الخبر ينتقل إلى أدنى الأرض حال وقوعه، ويسمع به الآخرون وقت حدوثه، تماماً كالأحداث التي كانت تنتقل بسرعة في كل أرجاء القرية الصغيرة المتلاصقة بيوتها، دون فاصل زمني تقريباً!!.
وإذا كان عالم اليوم قد غدا حتى أصغر من قرية بفضل تقنية وثروة الاتصالات، إلا أنه غدا قرية بلا روح!، ما من ألفة وتحاب فيه، وما من حميمية رغم كل هذا التقارب، فالكل يحيا حياته الخاصة بمعزل عن الآخرين، والكل تشاغله همومه وطموحاته، وتشغله عن معاناة من حوله، بل إن عالم اليوم هو أرخبيل كبير، أي مجموعة كبيرة من الجزر المعزولة عن بعضها في محيط كبير شاسع!!!.
ما كان يميز القرية أو الحارة، أن لا يبات أحد جائعاً، بل كانوا قلباً واحداً، يتآلفون ويأتلفون ويسهرون، أوجاعهم مشاع بينهم، وكذلك أفراحهم وهمومهم، وكانت الصحون المتبادلة بالأطعمة بين البيوت في رمضان صورة مميزة لنفسية الناس، الذين لا يأكلون طعامهم وحدهم، ولم يكن اللبن أو الجبنة أو السمنة أشياء تباع وتشترى مثلاً، بل إنها تمنح للذين لا يمتلكونها، بل أن هناك ما كان يسمى (المنوحة)، وهي عنزة أو نعجة يمنحها الغني للفقير؛ كي يستفيد بمنتوجها طوالة موسم أو أكثر!!.
وكثيرا ما كان يتعدى الأمر إلى المعونة، فأغنية فيروز (ع دلعونة) هي تحريف كلامي لأغنية قديمة تقول (يالله لمعونة) إي نريد المعونة، وربما هذا الأمر لم يكن بالطلب، بل النخوة هي محرك الناس، فيهبون للمساعدة في الزيتون، والحصيدة، وتطيين البيوت، وصبة السقوف، والتجهيز للعرس، وغيرها!!.
عالم اليوم اغتال اسم القرية، كي يمنحنا مزيداً من تظليل المشاعر وتلويثها: عالم اليوم كروي أكثر من حجر منجنيق، كروي وناعم أكثر قنبلة نووية، عالم منغلق عاطفياً، حتى لو صار مشاعاً إخبارياً.