تستطيع الدولة –متى ارادت- ان تفرض "رقابتها” على من تشاء، وان تضرب بيد القانون على من يتجاوز مهما كان وزنه ومكانته.
نحتاج في مرحلة "البحث” عن الاصلاح للتذكير بهذه البدهية، وربما الاحتفاء بها ايضا، اما المناسبة فهي الاجراءات التي قامت بها مؤسسة الغذاء والدواء في الاسبوع الماضي لضبط بعض المخالفات التي ارتكبتها محلات ومطاعم كانت فيما مضى "محصنة” من المخالفة .. لنكتشف بأنها وقعت في المحذور، وبأن عدوى "الفساد” وصلتها كما وصلت غيرها من مؤسساتنا وقطاعاتنا المختلفة.
لم تكن –بالطبع- مثل هذه الاجراءات تستدعي التوقف، ناهيك عن الاحتفاء، لولا امران: احدهما ان المواطن في بلادنا اصبح "محبطا” تجاه ما يتعلق "بمكافحة” الفساد ومحاسبة المتورطين فيه، خاصة بعد سلسلة طويلة من الوعود والمطالب التي انتهت الى "طي” الملف، وبالتالي فان ما فعلته مؤسسة الغذاء فتح امامنا بوابة صغيرة من الامل بقدرة الدولة على بسط "هيبتها” بالقانون على الجميع، اما الامر الآخر فهو ان من تورطوا في هذه المخالفات –او بعضهم على الاقل- محسوبون على "الطبقة” الاولى، من طبقات النفوذ "الغذائي” وبالتالي فان الوصول اليهم، وان كان فيما مضى مسألة غير مطروحة، بعث برسالة مهمة مفادها ان الرقابة على الجميع مطلوبة، وان زمن محاسبة "من لا ظهر له” ولّى، وان لا احد "منزّه” عن الفساد وبالتالي يتوجب ان يحاسب واذا حصل ذلك فان الدنيا لن تنقلب وهيبة الدولة لن تتزعزع، بل على العكس تماما، لان "تأديب” كبار الفاسدين سيردع الاخرين وسيطمئن الناس على انهم جميعا امام موازين العدالة سواء.
ما حدث على صعيد مكافحة "الفساد الغذائي” ليس بعيدا –بالتأكيد- عما حصل على صعيد "الفساد السياسي” لكن من المفارقات ان مؤسسة لا يزيد عدد كوادرها عن العشرات استطاعت ان "تزلزل” الارض تحت اقدام الذين يتلاعبون "بغذاء” الناس، وحين ظن بعضهم انه فوق القانون وقرر ان يستخدم نفوذه وشهرته المحلية او العالمية للافلات من قرار "الاغلاق” لم يكن صعبا على موظف واحد ان يأخذه بيده الى "العدالة”.. فيما لم تستطع مؤسسات اخرى اكبر مقدارا وتأثيرا ان تلجم "الفساد” السياسي الذي كشر عن انيابه واستقوى على الدولة.. حتى ظن البعض للحظة ان مجرد مسّ كبار المتهمين به سيجرح سمعة الدولة.. وربما استقرارها ايضا.
نستطيع –اذن- ان نبني على هذه الاجراءات البسيطة وان نستثمرها، فالفساد الاصغر الذي انتشر في مجتمعنا لم يكن بعيدا عن سياقات الفساد الاكبر الذي نشعر بالخوف من مواجهته، وربما اتاحت لنا هذه التجربة ما يلزم من "دعم” للدخول في عش الدبابير، وتسجيل "انتصارات” معنوية في هذا المجال الذي يبدو ان "انظار” مجتمعنا كله تتطلع اليه بفارغ الصبر، لا شماتة بالمتورطين فيه، ولا رغبة بتصفية حسابات وتقديم "اكباش” فداء، وانما لانقاذ بلدنا من هذا الكابوس واعادة العافية الى مجتمع تمدد فيها الفساد حتى وصل الى غذاء الناس ودوائهم.
الحملة على "المطاعم” الكبيرة كانت ضرورية لتذكيرنا بان اي حملة على "الكروش” الكبيرة لن تزعزع "امننا” الاجتماعي والسياسي ولن تزلزل الارض تحت اقدامنا كما يروّج اصحابها المتورطون في الفساد، على العكس تماما ستؤكد جدية "الدولة” في الاصلاح، وستدفع الناس الى الاطمئنان على مستقبلهم والمشاركة في بناء بلدهم ايضا.
بدأنا بحملة ضد "الفساد الغذائي” والمطاعم "الكبيرة” ويجب ان نصل الى "الفساد السياسي” واصحابه من ذوي الحسابات "المتضخمة” والكروش الكبيرة، وعندها سنقول بأننا بدأنا رحلة الاصلاح.. وخرجنا من دوامة الاختلاف على "بقرته” التي ما زالت مقدسة!