أزمات في عنق الزجاجة

إن المتتبع للشأن العربي وما يجري فيه هذه الأيام ، لتأخذه الدهشة ، ويصاب بصدمة عصبية عنيفة ، قد تدخله مستشفى الأعصاب، ذلك أن ما يجري يجعل المواطن العربي يسائل نفسه : أإلى هذا الحد كان المجتمع العربي مقسوما على نفسه ، تتنازعه الأفكار والأهواء والشيع والتشرذم ، فما عدنا نستطيع أن نطلق عليه مجتمعاً واحداً فنترحم على الشعارات التي كانت تنادي بوحدة الأمة من المحيط إلى الخليج ، وأمة عربية واحدة ذات رسالة واحدة ، فاختلفت بعد ذلك الآراء ، فضلت بنا السفينة في بحر متلاطم الأمواج ، لا نعرف أين ترسو ؟.

ومن خلال ذلك تَلاعب في مصير الأمة المتلاعبون ، والمتنطعون الذين لم يفهموا أصول اللعبة فأخذتهم أهواؤهم بعيداً، فأخذوا الأمة إلى المجهول حتى كادت أن تفقد هويتها وتنسى نضالها، فضعفت وهانت على نفسها وعلى غيرها وحتى على من يتولون زمام الأمور فيها، فكثر المفسدون، وانتشر الفساد حتى بلغ السماء ارتفاعاً، وقاع البحر إمعاناً وانخفاضاً فكثرت الأزمات واستفحلت.

من هنا وجدت أنَ من أول الأزمات التي أجد نفسي مسكوناً بتناولها القضية الفلسطينية التي أرى أن حقيقتها الواضحة والجلية، وضوح الشمس في شهر تموز، أنَ اسرائيل لن تجنح للسلم، ولن تسلم للشعب الفلسطيني أرضه التاريخية، ولا حتى الجزء الذي احتل عام 1967، وجميع المؤشرات تدل على أنَ اسرائيل ستستمر في غيها ولعبها على الوقت لتكسب المزيد من الأراضي التي وصل ما استولت عليها حتى الآن إلى ما يقرب 85%، وهي لا تريد جولات جديدة من المفاوضات تجبرها على تجميد الاستيطان أو وقفه ، وخططها تسير باتجاه نزع جنسية الفلسطينيين الذين بقوا على الارض، باعادة احياء قضية فك الارتباط الاردني -الفلسطيني في مشروع خبيث يراد منه اعطاء اهل الضفة الغربية الجنسية الاردنية ليصبحوا على ارض لا يمتلكونها .

وهنا في الاردن فهناك مجال لهكذا حديث ، فالازمات عديدة والكل منشغل بالوضع الاقتصادي الصعب، وحالة الفساد والإفساد، ومسيرة الاصلاح التي عطلتها قوى الشد العكسي والمتنفذون، وحالة الحراك الشعبي الذي نقر مطالبه المشروعة ونرفض أدوات التخريب التي تغلف عمل أقلية منه تربة صالحة لاحياء مشاريع كنا نعتقد انها انتهت، ليخرجها الساحر من قبعته من جديد تحت عنوان الربيع العربي الذي اغرقنا بأزماته ووضعتنا تلك القوى في عنق الزجاجة من جديد.

أما الادارة الامريكية التي كنا نعتقدها قادرة على تقديم يد العون لنا فهي لاهية بانتخاباتها القادمة ، وليس لديها ما تغري به اسرائيل لتتراجع عن مخططاتها، هذا ان لم تكن تلك الادارة جزءا من مخطط التهويد والترحيل وصاحبة مبادرة تصدير الازمات، ثم ما اسرائيل لتلك الإغراءات، فهي مثخنة بالأسلحة ، ومستودعاتها مليئة بكل أدوات التدمير بتفوق ملحوظ، ورزقها من المساعدات يأتيها من كل مكان، وفي الجانب الآخر عالم عربي مفرغ من كل أسباب القوة، مشغول بمشاكله وهمومه ، والمؤامرات على إخوانه ، ومعول الهدم للدولة العربية لا يكف عن العمل من أجل التجزئة والانقسامات، والعبث بشؤون الوطن والمواطن .

نجزم ان أزماتنا لن يحلها الا الاصلاح الديمقراطي القائم على مبدأ مشاركة الاحزاب السياسية في العملية السياسية مشاركة كاملة غير منقوصة، وهذا تضمنه قوانين تدفع الجميع للمشاركة وليس فقط النخبة ، بل كل الفئات والشرائح الموصوفة في ثقافتنا السياسية بالأغلبية الصامتة التي تهب اذا مس الوطن أي خطر، ، ان اعادة اللحمة للمجتمع يعطيه الصلابة والتماسك الذي يمكنه من الوقوف بوجه المؤامرات المشبوهة والاجندات الخارجية. وبعكس ذلك فالقادم أشد خطورة مما مضى وانقضى ، إننا نقول أنَ مطالبات البعض بالغاء قرار فك الارتباط كانت تغميساً خارج الصحن، وان الحديث عن تحرير فلسطين من البحر الى النهر في ظل التصريح بعدم قانونية فك الارتباط، مجرد ذر للرماد في العيون.